قتربت الحرب في سوريا من مراحلها الختامية. وما يجري الإعداد له من عمليات عسكرية وأمنية، في الشهور القليلة المقبلة، سيوسّع الى حدّ كبير مساحة انتشار الجيش السوري وعودة سلطات الحكومة الى هذه المناطق. وكذلك هي الحال في العراق، حيث لم تعد الولايات المتحدة وحلفاؤها قادرين على حماية وجود أي مجموعات مسلحة تنتمي الى الفكر التكفيري في كل العراق.
الورشة العسكرية والامنية في هذين البلدين وعلى الحدود بينهما، وعلى طول الطريق الذي يقود الى لبنان، ستستهلك من قوى محور المقاومة الكثير من الجهد. وهذا يتعلق بحزب الله على وجه الخصوص. ليس لكونه القوة الشعبية الاكثر نفوذاً وتأثيراً وفعالية في هذا المحور، بل لما باتت قيادته تمثل بالنسبة الى أركان المحور، حيث الاتكال عليها في ملفات كثيرة خارج العمل العسكري والأمني، وهو ما يفرض على قيادة الحزب الانشغال بملفات كثيرة خارج إطار لبنان. ولأن الامر كذلك، ولأن ارتفاع مستوى تهديدات العدو الاسرائيلي بات مقلقاً أيضاً، فإن الاستنفار والجهد لمواجهة التحديات التقليدية في وجه المقاومة يفرضان استنزافاً لطاقات هائلة عند الحزب على هذه الجبهة.

وهو ما قد يشغل كوادر الحزب وقياداته، لا سيما العاملة في الجسم الجهادي، عن متابعة ملفات أخرى تخصّ حياتهم اليومية العادية، أي خارج العمل الحزبي أو الجهادي، علماً بأن هؤلاء عندما يمضون أوقاتهم الخاصة مع عائلاتهم وفي أحيائهم وقراهم ومدنهم، يسمعون قصصاً كثيرة عن المآسي التي تكدّر حياة جمهور المقاومة، ليس في لبنان فقط، بل في سوريا والعراق أيضاً.
ذات مرة، أعدّ شاب من الضاحية تصوراً لفيلم قصير يختصر علاقة المقاومين بالإنماء. يقول السيناريو إن رجلاً في الاربعينات من عمره، يسير برفقه ابنه العشريني في شوارع الضاحية الجنوبية، في طريقهما الى منزلهما. على طول الطريق، يحدّث الأب الابن عن أيام العمليات ضد الاحتلال الاسرائيلي وعن سنوات الاعتقال، ويذكر له أسماء الشهداء من رفاقه وأبناء قريته، ليأخذ الابن الحديث عارضاً كيف استفاد ورفاقه من تجربة الذين سبقوا وهم يواجهون العدو التكفيري في لبنان وسوريا والعراق. خلال دقائق، يتجاوز الاثنان شوارع كثيرة، يلتفتان بين الحين والآخر الى أكوام النفايات المجمّعة عند زوايا الشوارع، ويواصلان الحديث عن أمجاد المقاومة، قبل أن يصلا الى مدخل المبنى حيث يقيمان. يقفان أمام المصعد، ليكتشفا أنه معطل: الكهرباء مقطوعة!
المسألة هنا إذن. وهي مسألة صارت تمثل أولوية، ليس بقصد إدارة سجال وطني حولها، وهو السجال الذي يغرق المقاومة في وحول لبنان الطائفية والفساد والخيانة. بل هو السجال الذي يجعل الخدمات العامة أمراً عادياً، لا علاقة له بالسجال الوطني الكبير، والذي يجعل حياة الناس أفضل من دون ربط مصير وزارة الصحة بمصير الصراع العربي – الاسرائيلي. وهنا، لا تقع المسؤولية على المقاومة، بل على حزب الله، بوصفه أكبر أحزاب لبنان وأقواها على الاطلاق. وفي بيئة المقاومة اليوم، بات هذا التمييز بين المقاومة، والحزب ومؤسساته، بيّناً، لا بل إن كثيرين باتوا يميّزون بين الحزب وأمينه العام، فتسمع كثيرين يقترعون أو يصوّتون كرمى للسيد حسن نصرالله!

استقالة الحزب من المسألة الداخلية دفعت ببعض أبناء بيئته، ممن يعملون في مختلف القطاعات، الى التسلح بهذه الاستقالة للتشابه مع الآخرين في طريقة إدارة أعمالهم. هكذا «انفجرت» فضائح الاسواق العقارية والاستهلاكية وفُرّخت المنشآت السياحية والتعليمية والصحية من دون دراسة أو تخطيط. وهكذا صار الاعتداء على الحق العام والاملاك العامة في هذه البيئة كأنه أمر عادي. وهكذا تعززت فوضى الانخراط في البناء الداخلي، وصار الركض خلف توظيفات المحاسيب والأزلام واعتماد طريق الوساطات غير النزيهة لتسهيل أمور فيها الكثير من المخالفات للقوانين العامة. وهؤلاء لم يتوقفوا يوماً عن حبّهم ودعمهم للمقاومة. وبينهم من يرفع سقف شعائره وطقوسه الدينية، ظناً منه أنها تمثل الحصانة له، وهذا ما خلق قاعدة لا محاسبة فيها، لا من دولة غائبة ولا من بيئة متساهلة. وهذا ما خلق بعض المهن التي تحتاج الى تنظيم، من مقرئي العزاء الذين صاروا ينافسون المطربين في النشاط والاسعار وخلق المناسبات، الى الحريصين على أزياء مجتمع المقاومة، فصار النهب وسيلة لتحقيق تمايز بين هذه وتلك من خلال أنواع من الثياب التي ظلت موحدة عند الغالبية. وهو الامر الذي خلق منافسة مع «بيئات الآخرين» لامست حدّ التطابق في شكل البناء وشكل السيارات وأحجامها ونوعية المطاعم والمقاهي. وهكذا صارت شركات السياحة الدينية في حالة تواطؤ علني مع مرجعيات دينية واجتماعية وحتى سياسية، لاعتبار زيارة الاماكن المقدسة فعلاً إلزامياً. وفي هذه تجارة تدرّ الارباح غير المسبوقة، والتي يعود بعض كبار المستفيدين منها آخر العام للقول إنهم نفّذوا التزاماتهم الشرعية من خلال الخمس والصدقات على الفقراء، بينما هم تعلموا أصول التهرب الضريبي، تماماً كما تفعل الشركات التجارية العاملة بقرار عند أرباب السلطات في البلاد.
ربما هناك مشكلة أصلية في علاقة حزب الله بالدولة. ذلك أن غالبية كوادره الناشطين، سبق أن تفرغوا في العمل الحزبي في العقد الاول من عمر الحزب، ما أدى عملياً الى جعل غالبية قياداته وكوادره متفرغين في العمل الحزبي منذ أوائل التسعينيات، أي تاريخ نهاية الحرب الاهلية. وابتعاد الحزب عن الوظيفة العامة، بقرار منه أو بقرار من خصومه، جعل غالبية كوادره الفاعلين غير مجربّين في العمل العام. ثم جاءت الأولويات السياسية لتمنع مساهمة عدد كبير جداً من أعضائه ومناصريه من وظيفتهم المهنية كما يجب. المهندسون والمحامون والاطباء والاساتذة، يخوضون العمل العام وفقاً لأجندة سياسية فقط. ذلك أن التصور الحزبي العام يمنعهم من النظر الى هموم وهواجس القطاعات المعنيين بها. ومع الوقت، يتراجع نفوذهم خارج الدائرة الزمنية المتصلة بالمعارك الانتخابية على إدارة هذه النقابة أو تلك، أو هذا القطاع أو ذاك. لا بل إنهم انخرطوا، راغبين أو مرغمين (من دون مقاومة) في لعبة المحاصصة القائمة. فصاروا يهتمون بموقعهم ضمن الحصة الشيعية في نظام طائفي لا يستفيد حزب الله منه بشيء، بالإضافة الى كون هذا النظام الطائفي يتآمر ليل نهار على المقاومة، وهو أصلاً نقيض لها بوصفها فعلاً من أجل الحق والعدالة!
في حزب الله مجالس عمل تخصّ الحياة اليومية للناس. مجلس عمل نيابي وبلدي ووزاري ومركز دراسات محترم بكوادره وعقله، وفي حزب الله عشرات الكوادر الذين تسلموا إدارة بلديات كبرى ومتوسطة وصغيرة منذ نحو عشرين سنة. لكن، هل القرار المتخذ بشأن هذا المنصب أو هذا الدور مرتبط حصراً بما يوجبه هذا المنصب وهذا الدور من مواصفات وكفاءات، أم أن الحزب دخل في لعبة الاختيار وفق أولويات تخصّ التنظيم وتوازنات القوى داخله وحسابات العائلات والتجمعات خارجه، ما يؤدي في كثير من الاحيان الى تركيبات بلدية وقطاعية لا تجانس فيها، وما يجعل الحزب، المتعفّف عن تولّي مناصب رئيسية في الدولة، والمتنازل عنها لمصلحة حلفاء أو أصدقاء، لا يفعل الأمر نفسه في هذه المواقع، فتراه يختار في بعض المناطق شخصيات، متجاهلاً كفاءات وقدرات موجودة عند آخرين من أبناء هذه المنطقة؟ وبالتالي، بدل أن يصبح دور هذه المجالس استشارياً معاوناً للبلديات والنواب والوزراء في عملهم العام، يتحول الامر الى سلطة وصاية تقرر وفق أولويات لا تأخذ ــــ تماماً ــــ مصلحة وحاجات القطاع نفسه، فيصير الحزب عندها يشبه كل الآخرين في إدارة الشان العام.

لا حاجة لنا، ولا للحزب، لمن يشرح لنا خلفيات سياسية محلية وخارجية لبعض التحركات الشعبية التي حصلت في لبنان تحت عناوين تخصّ حاجات الناس. لكن إعلان الحزب استقالته العلنية (قالها السيد حسن نصرالله بلسانه) من مهمة مواجهة الفساد في لبنان، لا يحاصر هذه التحركات فقط، بل هو يمنح الحصانة للفاسدين الذين يعرفون أن صرخة حقيقية تصدر عن الحزب وجمهوره كافية لهزّ الأوضاع كافة. والمشكلة، هنا، أن الحزب لا يخالف المتحركين في مطالبهم، لا بل إن جمهوره متعاطف الى أبعد الحدود. لكن الحزب مانع لتفعيل هذه التحركات، وعائق أمام مشاركة جمهوره فيها، ما يعني عملياً تعطيل واحدة من أكبر حيويات المجتمع عندنا من المساهمة، أقله في وقف الفساد، إن لم يكن بالإمكان المحاسبة.
وفي تفصيل إضافي، يعرف الحزب أن البلاد لا تنقسم بين طوائف ومذاهب فقط، بل بين مناطق وبين عاصمة وأطراف. وفي هذه الحالة، يعرف الحزب أن هناك مشكلة جدية اسمها البقاع. حيث يمكن لمراقب عادي أن يقوم بجولة ليكتشف أن غالبية مناطق هذه المحافظة لا تزال خارج اهتمامات الدولة. حتى عندما يقرّ قانون إنشاء محافظة، وفرع لتعاونية موظفي الدولة أو مركز للسجل العدلي أو فرع للضمان الصحي، فذلك لا يعني أنها مراكز عاملة حقيقية، وأنها توفر الخدمة المطلوبة كبقية المناطق. ورغم الفقر العام في البلاد، يمكن للمراقب اكتشاف الغياب التام لأي صرح ثقافي أو فني أو ترفيهي في كل هذه المحافظة. وفي كل مرة يحصل فيها نقاش من هذا النوع، يخرج نواب أو وزراء الحزب أو أبرز فعالياته للحديث عن معالجة هذه المشكلة هنا، وتزفيت هذا الطريق هناك، وتوفير وظيفة لهذا المعتر أو ذاك. صار هؤلاء يريدون منافسة النواب التقليديين الذين كانوا وما زالوا واحدة من مشكلات البلاد. حتى أرشيف إعلام الحزب لا يظهر فعالياته إلا وهم يشاركون في حفل عزاء أو تأبين أو احتفال سياسي.
المشكلة، اليوم، أن حزب الله، وبعد كل ما أنجزه، وما يمكن له أن ينجزه ويراكمه كقوة مقاومة لها نفوذها الاقليمي والدولي، صار معنياً ليس بالتشخيص والتوجيه حيال ما يجب أن تقوم به الدولة. صار لزاماً عليه ابتداع آلية تتيح لجمهوره الوصول الى حقوقه المدنية الخاصة من دون منّة من أحد، ومن دون تزلف لأحد. وباتت قيادة الحزب ملزمة بمراجعة شاملة، تدفعها الى ابتداع هيكليات تنظيمية، وبناء تحالفات اجتماعية – سياسية، تسمح بتحقيق تغييرات جوهرية. أما الدعوة الى الصبر وانتظار الفرج الإلهي فلن تحقق شيئاً. وعلى الحزب الاستماع الى الآخرين، من الذين لم يخذلوا يوماً مقاومته، والتثبت من أن تجارب الماضي تسمح بدروس أفضل. والأهم، عدم التذرع بالظروف الاستثنائية، لأنها ظروف دائمة، وتجاهل الأمر سيضغط الناس أكثر، ويدفعهم الى تضييع البوصلة عند أول انفجار أهلي!

المصدر: الاخبار