«أنى نقعنها بالتزام الصمت حتى تعي حقيقة ما تتحدث عنه؟». هكذا وجَّه الكاتب الصحافي روبرت فيسك كلامه لـ«نيكي هالي» سفيرة أمريكا لدى الأمم المتحدة في مقاله المنشور عبر صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، وذلك بعد إطلاقها مجموعة من العبارات النمطية بشأن قيادة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، والتي حسب وصفه لا تنم إلا عن جهلها بتاريخ حروب لبنان، وما تسوقه إسرائيل من ادعاءات لتضليل الدبلوماسيين والسياسيين الأمريكيين «السذج».
يقول «فيسك» إن «في ظل القيادة المتعقلة،عادة ما تمكنت الأمم المتحدة من إدارة الوساطة في اتفاقية وقف إطلاق النار في حروب لبنان السابقة، لكن المشكلة الحالية هي أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (مجنون)، وبالتالي لم يتبق أمام نيكي هالي سوى استخدام سلسلة من العبارات النمطية في الأمم المتحدة تليق بتيريزا ماي – رئيسة الوزراء البريطانية –؛ الأمر يزداد سوءًا وإخجالاً».
شجار معد مسبقا!
يقول «فيسك» إنه في منتصف يوم صيفي شديد الحرارة، شمسه حارقة، على الحدود اللبنانية الإسرائيلية الجنوبية، عُقد اجتماع استثنائي شديد الغضب بين جنرالين رئيسين، هما: «مايكل بيري» قائد قوات الأمم المتحدة الأيرلندي في لبنان البالغ من العمر 60 عامًا، وبين «كوخافي» نائب رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي البالغ من العمر 54 عامًا. و بينما استمعت لهم «نيكي هايلي» السفيرة الأمريكية الطموحة والمؤيدة لإسرائيل – عديمة الخبرة – لدى الأمم المتحدة، يبدو أن إسرائيل خططت مسبقًا لحدوث الشجار بين الطرفين من أجل إقناعها، ونجحت الخطة.
يذكر «فيسك» أن الجنرال الإسرائيلي «أفيف كوخافي» قام بنقل هالي بالهليكوبتر من مدينة القدس إلى الحدود في الثامن من يونيو (حزيران) من أجل القيام بجولة، والتي عادةً ما تُعدها إسرائيل للمسؤولين الأمريكيين «السذج»، تشمل: جولة سيرا على الأقدام إلى السلك الحدودي اللبناني، مصحوبة بتحذيرات وتخوفات إسرائيلية من «إرهاب» حزب الله، و خنادق القذائف «السرية» لحزب الله في الأراضي الخاضعة لسيطرة الأمم المتحدة، وفشل قوات الأمم المتحدة في «نزع سلاح الإرهابيين» في لبنان. ويصف تلك الرواية بأنها قصة رعب مألوفة، يُتَذرعُ بها أمام الأمريكيين وغيرهم من الدبلوماسيين والسياسيين الغربيين لأكثر من ثلاثين عامًا.
استقرار أم إهمال في أداء المهام؟
ليست مهمة الأمم المتحدة في جنوب لبنان محاربة حزب الله نيابة عن الإسرائيليين كجزء من حربها بالوكالة ضد إيران.
يذكر «فيسك» أن كل شيء بدا مشرقًا وباعثًا على التفاؤل عندما أوضح قائد قوات الأمم المتحدة، الجنرال «مايكل بيري» –الأيرلندي وأحد أكثر الجنرالات في قوات حفظ السلام الدولية خبرة، والذي تم تكليفه بثلاث جولاتٍ في لبنان، وأرسل إلى العراق والبوسنة وأفغانستان– لـ«هالي» أن الوضع مستقر على الحدود اللبنانية الاسرائيلية، ولا يتطلب مزيدًا من التدخل، وأن الحدود تشهد حاليًا أحد أكثر الفترات سلمية في تاريخها الحديث. ويعقب على ما قاله الجنرال أنه كله حقيقي.
لكن يختلف الوضع وفقا لـ«كوخافي»، القائد لفرقة غزة سابقًا، ومدير الاستخبارات العسكرية سابقًا؛ إذ قال غاضبًا لـ«بيري» إن الأمم المتحدة لا تقوم بعملها، وإنها تخشى دخول القرى الشيعية في جنوب لبنان بسبب خوفها من مواجهة حزب الله الموالي لإيران. وحسب ما قال الإسرائيليون، فإن كوخافي أخبر هالي أن انتداب الأمم المتحدة يجب أن يتغير لضمان قيام جنودها بـ«نزع سلاح» حزب الله.
يقول «فيسك» إن الجنرال بيري صمد في موقفه؛ إذ تردد على مسامعه مثل تلك الأمور قبلاً. فمن المفترض أن تعمل الأمم المتحدة جنبًا إلى جانب سيادة الجيش اللبناني لضمان سيطرة الحكومة اللبنانية – والسلام – في القطاع الضيق على الحدود اللبنانية، وليس محاربة حزب الله نيابة عن الإسرائيليين كجزء من حربها بالوكالة ضد إيران.
التعقل مطلوب
ويرى «فيسك» أنه ربما لو كان سفير أمريكا لدى الأمم المتحدة شخصًا أكثر حكمة، لتحقق من صحة كل ذلك. مضيفا أن هالي ربما لو ذكرت نفسها – على سبيل المثال – بعدد المرات التي أطلقت فيها إسرائيل نداءات استغاثة كاذبة من قبل، أو كم مرة تبين فيها كذب ادعاءاتهم حول وجود صواريخ مخفية.
على سبيل المثال قبل سنوات قليلة، كشفت إسرائيل عن صور التقطتها طائرة بدون طيار لـ«صاروخ» من موقع مرآب مُفجَّر في الجنوب اللبناني تحت عين الأمم المتحدة، بيد أن أحد جنود قوات الأمم المتحدة قام بالتقاط صورة الصاروخ المزعوم على بعد أقدام قليلة، والتي تظهر بوضوح أن «الصواريخ» لم تكن سوى الباب الأمامي الصفيحي المموج المدمر جراء تفجير المرآب. يقول «فيسك» إن هالي ربما قرأت كتبًا قليلة حول لبنان، التي كان كل تدخل إسرائيلي فيها يتحول إلى كارثة مطلقة.
ومع ذلك، في غضون 11 أسبوعًا، نفست هالي في الأمم المتحدة عن غضبها بشأن «عدم تفهم الجنرال بيري المخجل لما يحدث» في الجنوب اللبناني، وحول كونه «أعمى» عن انتشار الأسلحة غير المشروعة هناك. وبعد مثل هذا الهجوم على مدى كفاءته كضابط لدى الأمم المتحدة والذي غني عن القول مدى اتخاذه منحنى سيئا في بلده الأم أيرلندا، رد بيري مؤكدًا على عدم وجود أدلة على زيادة التسليح، وأنه «إذا كانت هناك كمية كبيرة مخزنة من السلاح، كنا سنعلم بشأنها».
هل تُخل الأم المتحدة في القيام بمهمتها؟
يقول «فيسك» إنه بالنسبة لوزارة الشؤون الداخلية، يعد «بيري» محقًا. لكنه أيضًا يعلم مثله مثل جميع القاطنين في لندن، أن مقاتلي حزب الله يعيشون في القرى الشيعية داخل نطاق الأراضي الخاضعة للأمم المتحدة، بالطبع هم موجودون؛ هم شيعة، وتلك هي منازلهم. فضلا عن أن الجميع يعلم أن لديهم أسلحة؛ لا سيما بعد أن أوضح حزب الله ذلك على نحو مخجل في أبريل (نيسان) أثناء نقله مجموعة من الصحافيين على حافلة إلى الحدود، حيث رأى الصحافيون ما يقرب من عشرة رجال تابعين لحزب الله مسلحين ببنادق، ورشاشات وقاذفات صواريخ قرب مقر الأمم المتحدة.
ويبدو واضحًا أن الأمم المتحدة لم تكن على دراية بالرحلة مسبقًا، مما أثار غضب الحكومة اللبنانية لاحقًا، بينما استعرض حزب الله متفاخرًا أمام الصحفيين بعض أجهزة التنصت الإسرائيلية الجديدة على الجانب الآخر من الحدود.
يصف «فيسك» الوضع حينها قائلا كانت مهزلة، ولكنها لم تكن الوحيدة حسب قوله، هناك عناصر أكثر إثارة للقلق في تلك القصة؛ إذ يذكر أن هناك بالفعل قرى شيعية محددة في الجنوب اللبناني لا تُطيل الأمم المتحدة البقاء فيها، وهناك هضبة صغيرة تعرف محليًا باسم «الحدائق الإيرانية»، والتي لا يمكن أن تتجول فيها الأمم المتحدة، لكنها تظل ضمن منطقة عمليات الأمم المتحدة.
تواجدت اليونيفيل – قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان – داخل لبنان لحوالي أربعين عامًا، وقتل منها حوالي 250 شخصا على يد مختلف المجموعات المسلحة بما في ذلك حزب الله، والإسرائيليين والفلسطينين. وتراقب قواتها التي قوامها 15 ألف تطبق اتفاقية وقف إطلاق النار المتفق عليها عقب حرب حزب الله وإسرائيل عام 2006، وتشمل مهمتهم أيضًا ضمان «الوقف الفوري لجميع العمليات العسكرية الهجومية» الإسرائيلية، ويذكر فيسك أن التحليق الإسرائيلي المستمر فوق لبنان والمستمر قرابة أربعين عامًا يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة.
يرى «فيسك» أن أي من ذلك لا يبرر جهل هالي بوضع الجنوب اللبناني. حسب ما قالته هالي، فإن بيري «يبدو الشخص الوحيد في الجنوب اللبناني الأعمى عما يفعله حزب الله». لكن «فيسك» يقول إن هالي تبدو الدبلوماسي الوحيد في الأمم المتحدة الأعمى عن مدى خطورة الوضع في الجنوب اللبناني لولا وجود كبار السن مثل الجنرال بيري.
ينتقل «فيسك» للجانب الإسرائيلي، قائلا إن «كوخافي» الشاب «الداهية» كما لم يكن أي قائد أعلى إسرائيلي من قبل، هو الوحيد الذي لا يريد حربًا أخرى بطول الحدود، لذا، مع كل شرارة عنف على الحدود، تتجه إسرائيل لمقر الأمم المتحدة في الناقورة طلبًا للمساعدة.
أما في لبنان، وبعد فشل مخطط الإطاحة ببشار الأسد في سوريا، وبالتالي فشل التخلص من حليف إيران العربي في الشرق الأوسط، لا يزال اللبنانيون يخشون دفع الإسرائيليين باتجاه حربٍ جديدة مع لبنان للتخلص من حزب الله، الحرب التي فشلت فيها إسرائيل عام 2006 فشلاً محققًا، وبعبارة أخرى الحرب التي لم يفز فيها حزب الله، لكن بالتأكيد خسرتها إسرائيل.
هل فشلت إسرائيل؟
لكن تهديدات إسرائيل ضد لبنان فقدت تأثيرها اللاذع قبل وقت طويل، يقول «فيسك» إنه نفسه ردد مرارا وتكرارا تحذيرات إسرائيل من مهاجمة القرى المدنية في الحرب «القادمة»، وأن لبنان ستتحطم وتتراجع مقدار 400 عام بسبب التدمير المطلق لبنيتها التحتية. لكن إسرائيل بالفعل دمرت الكثير من البنية التحتية المدنية اللبنانية في عامي 1982 و 1996، ومرة أخرى عام 2006. بيد أن لبنان تمكنت من إعادة بناء نفسها بالاستعانة بأموال السعودية وقطر والكويت.
أما إسرائيل، فقد أنفقت ملايين الدولارات على القنابل الموجهة للسوريين والإيرانيين وقوات حزب الله داخل سوريا على مر الخمس سنوات الماضية، وخلال الحرب السورية، لم تطلق حتى طلقة واحدة على داعش، فضلاً عن سماحها للمقاتلين الإسلاميين بالذهاب إلى مستشفيات حيفا للخضوع للعلاج والرعاية الطبية، وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تطلق النار على الطرف الواضح خسارته ووجهت قذائفها تجاه الشيعة، تبدو القوات الشيعية فائزة. مما يجعل إسرائيل تتساءل الآن حول ما يخبئه حزب الله لها.
ولسوء الحظ يدرك كوخافي تمامًا أن حزب الله يحتفظ بقذائفه بعناية شمال خطوط الأمم المتحدة، ففي نهاية المطاف، مع وجود نطاق شاسع – خالٍ في جنوب إسرائيل – كصحراء النجف الممتدة جنوبًا، لماذا قد يخبئ حسن نصر الله زعيم حزب الله الذي يتحدث في بعض الأحيان كما لوكان رئيس لبنان، صواريخه داخل نطاق الأراضي الواقعة تحت سيطرة الأمم المتحدة على الحدود؟
موقف واشنطن المخجل
أما في واشنطن، يقول «فيسك»: هناك دونالد ترامب الذي لا يعرف الكثير عن لبنان، أو حتى أقل من نيكي هالي. جدير بالذكر أن ترامب تحدث إلى رئيس الوزراء اللبناني مؤخرًا بشأن الحرب الأخيرة مع حزب الله، لكن يبدو أنه ليس مدركًا أن هناك وزراء في الحكومة اللبنانية تابعون لحزب الله، فضلاً عن أن الرئيس اللبناني ميشال عون مؤيد لميليشيات حزب الله.
إلا أن «فيسك» يؤكد أنه في ظل القيادة المتعلقة، تمكنت الولايات المتحدة من إدارة اتفاقيات وقف إطلاق النار في حروب لبنان السابقة، بيد أن المشكلة الحالية تكمن في أن الرئيس الأمريكي مجنون، فلم يتبق أمام نيكي هالي سوى استخدام سلسلة من العبارات النمطية في الأمم المتحدة تليق بتريزا ماي.
يذكر «فيسك» بعض عبارات هالي التي قالتها في الأمم المتحدة مثل قولها «طفح الكيل» عند الحديث بشأن صواريخ كوريا الشمالية، وأن كوريا الشمالية «تستجدي الحرب»،وأن أمريكا لن تستمر في «إزاحة العثرات على الطريق»، فإن مثل هذا الهراء ربما كان يجدى نفعًا عندما كانت حاكم ولاية ساوث كارولينا، لكنه من المؤسف أن نسمعها تردده باعتبارها سفيرًا لدى الأمم المتحدة، واصفة ضابط أعلى في الأمم المتحدة في لبنان بأنه «أعمى» عن مهامه.
ويختتم «فيسك» مدللاً على كفاءة بيري في أداء مهامه، فيذكر أن القوات الفرنسية في الأمم المتحدة في لبنان قوامها 1000، أخبرت الأمم المتحدة أنهم سعيدون للغاية بقيادة بيري. ويتساءل أنى لنا أن نقنع هالي بالقيام بواجبها، والتخلي عن خط الدعاية المؤيدة لإسرائيل، أن تصمت حتى تكون على دراية بحقيقة ما تتحدث عنه، وليس مجرد كلمات.