يواجه سمير جعجع مرحلة صعبة من حياته السياسية. من كان يُعوّل عليهم لخوض الانتخابات النيابية، أو الاستمرار في بناء حيثية تؤسس لمرحلة «ما بعد ميشال عون»، يبتعدون أو يُبعدهم عنه. الكلام لحلفاء سابقين لـ«الحكيم»، فيما مصادره تؤكد أنه «لاعب أساسي»
مُعبّرة صورة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، التي عرضتها لمياء أبي اللمع في معرضها للصور، بعنوان «أصحاب المقامات». المعرض نُظّم عام 2013، وتمحور حول 45 شخصية سياسية جُرّدت من بذاتها الرسمية. اقتحمت أبي اللمع «الحياة الأخرى» للسياسيين، ومن بينهم غُرفة نوم «أسير معراب». الغرفة مُميزة بطريقة غريبة. الألوان بسيطة. ملاءات السرير المزدوج بيضاء، وفوقها غطاء شتوي بنّي، فاتح اللون. اللافت للنظر، وجود «دبدوب» محشو وسطه. دبّ أزرق صغير، كُتب عليه «سمير». عرفت أبي اللمع أنّه هدية من زوجته النائبة ستريدا طوق. إلى جانب السرير الأيمن، عددٌ من زجاجات المياه المختومة... ومسبحة. وعلى الجانب الآخر، صورة للزوجين جعجع، وثلاث عربات صغيرة مُخصصة للكتب. من هذه الزاوية، يظهر انعكاس لتمثال القديس شربل. واضح أنّ رئيس «القوات» الذي أمضى 11 عاماً وحيداً، في زنزانة صغيرة، «اختنق» من الجدران. رُبّما لذلك، قرّر استبدالها داخل الغرفة بالمرايا.
كيفما تلفّت الرجل، يلقى نفسه برفقة نفسه، فلا يشعر بأنّه وحيدٌ. لا يوجد أفضل من هذه الصورة، لوصف حالة سمير جعجع السياسية، بعدما انتهى الدور «المطلوب منه» في التسوية الرئاسية، وأصبح لكلّ من حلفائه المفترضين «سندٌ» سياسي آخر.
الوضع صعب، «والمشكلة الأساسيّة أن جعجع بقي وحيداً»، يقول حليفٌ سابق لقيادة معراب. لا أحد يدري إن كان جعجع قد خطّط لمصارعة الأقربين والأبعدين، ولكن هذا ما أصبح عليه الأمر. البداية من الملعب الداخلي لما كان يُسمّى فريق 14 آذار، والذي يُقسم إلى اثنين: الأحزاب والمستقلون. خلال زيارته لزحلة، عرض جعجع مع النائب إيلي ماروني إعادة التواصل بين القوات وحزب الكتائب، وانتشرت أخبار عن نيّة جعجع إرسال موفد إلى الصيفي. قبل ذلك، على جعجع أن يعمد إلى دعوة مناصري الحزبين إلى إقفال دفاتر الحرب الأهلية والنزاعات الداخلية بينهما. منذ سنوات، والجبهة بينهما لا تبرد. إلا أنّ الذروة كانت بعد ترشيح معراب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، ومشاركة القوات في الحكومة، وسط اتهامات بأنها عملت على عزل الكتائب خارجها. وأخيراً، استُثني الجميل من الدعوة إلى القداس في معراب، ومزايدة الاثنين حول من يملك حق «النطق باسم الشهداء».
إلى جانب الكتائب، هناك حزب الوطنيين الأحرار. صحيحٌ أن لا خلاف علنياً بين «الأحرار» والقوات، ومنظمتي طلاب الاثنين تُشاركان في التحركات الشعبية معاً. إلا أنّ النائب دوري شمعون واضح في موقعه المُعارض إلى جانب الجميل والوزير السابق أشرف ريفي. كما أنّه من أشدّ المنتقدين للتسوية الرئاسية.
تيار المستقبل، من جهته، نفخ البالون القواتي إلى أقصى مستوى من أجل مواجهة التيار الوطني الحر. أموالٌ، ونفوذ إقليمي، ساهم «المستقبل» في رفد القوات بهما. كان ذلك قبل أن «يُعجب» المسؤولون المستقبليون، ولا سيما أعضاء الحلقة الضيقة لرئيس الحكومة سعد الحريري، بالتيار العوني ورئيسه الوزير جبران باسيل. لا يجدون مانعاً من القول إنهم «لم يُقدموا على التسوية مع العونيين حتى ننقضها سريعاً، بل سيكون أمدها طويلاً». في المقابل، تُكال أقسى الانتقادات إلى جعجع ومواقفه السياسية، فضلاً عن أنّ خيارات الحريري «المسيحية» لم تعد ضيقة. هناك حليف «رديف» اسمه النائب سليمان فرنجية، أراد الحريري، في مرحلة ما، انتخابه رئيساً للجمهورية. واللقاء الأخير بين الحريري وجعجع، «لا يهدف إلا إلى الإيحاء بأنّ رئيس القوات لا يعيش في عزلة»، بحسب المصدر.
القسم الثاني من ١٤ آذار، هم «المستقلّون». بعدما «فتح» النائب بطرس حرب الجرد البتروني أمام القوات، مستفيدة من قاعدته الشعبية، وبعدما جفّ حلق النائب السابق فارس سعيد وهو «يُبشّر» بجعجع، مُحاولاً إقناع الناس به وبخياراته، أرسلهما جعجع إلى ضفة خصومه ومنافسي مرشّحيه. أما ميشال معوض، فقد «حرّره» اتفاق النوايا. لم تنقطع علاقته بمعراب، لكنّه تحول إلى صديق لباسيل، من دون إقفال الباب أمام التحالف مع أي طرف. لم تستصعب معراب فكّ الوصال مع الثلاثة، ومع غيرهم. علاقتهم بالقوات بدأت تتردّى منذ «القانون الأرثوذكسي»، وصولاً إلى اعتبارهم أنّ تفاهم عون ــ جعجع لا هدف له سوى «الاستئثار بالقرار المسيحي وإلغاء الآخرين».
بمجرد التقاء عون ــ جعجع، بدأ منظرو الطرفين يتحدثون عن أنّ «التيار» والقوات يُمثلان 86% من الناخبين المسيحيين. اعتبر جعجع أنّ وقوفه إلى جانب رئاسة الجمهورية سيجعل منه شريكاً أساسياً للعهد، والقوة «المسيحية» الثانية بعد التيار الوطني الحر. الخسارة الأولى لمراهنته كانت بمجرّد اعتماد القانون النسبي والصوت التفضيلي، وضعف إمكانية تحالف الفريقين في معظم الدوائر. ثم أتت التعيينات الإدارية والدبلوماسية والعسكرية لتقول للقوات إنّ «فريق العهد» لا يعني سوى «التيار». التناقض السياسي، واقتناع العونيين بأهمية الدور الذي يلعبه حزب الله والتحالف معه، والمواقف الإقليمية، باعدت أكثر بينهم وبين القوات. وأخيراً، توجيه باسيل رسالة قاسية لجعجع بأنه قادر على مواجهته من بشرّي، مروراً بكسروان، وصولاً إلى زحلة، لتردّ عليه القوات («الأخبار» العدد ٣٢٧٥) بأنه خرق ورقة التفاهم.
من الرهانات التي قام بها جعجع، بحلفه مع عون، محاولة «كسب» حزب الله. خفّف حدّة انتقاداته، وعبّر عن تقديره لتضحيات شباب المقاومة في معركة الجرود («الأخبار» العدد ٣٢٣٤)، وحاول وزراؤه خرق معاقل حزب الله في زيارات «وزارية». إلا أنّ كل ذلك «لم يُثمر. عون حافظ على حلفه مع حزب الله، وتقدّمت علاقته بتيار المستقبل، فيما جعجع يتراجع»، وبقيت أبواب حارة حريك موصدة بوجهه. في ما خص العلاقة مع حركة أمل، فهي عادية. تأخذ طابع «استفزاز» باسيل، كلّما تقاطعت مصلحة القوات و«الحركة» على ذلك. أما تيار المردة، فبعد زيارة الوزير السابق يوسف سعادة لمعراب، وإعادة تفعيل اللجنة المشتركة بينهما، لا يظهر حتى الساعة أنّ النائب سليمان فرنجية سيدفع باتجاه «تطبيع» للعلاقة مع من يتهمه باغتيال عائلته وعشرات الشباب الزغرتاويين. ولا داعي للحديث عن تواصل بين القوات من جهة، والحزب السوري القومي الاجتماعي، أو حزب البعث، أو الكتلة الشعبية (زحلة)، أو الحزب الشيوعي، أو مجموعات «المجتمع المدني». بعدما «كان جعجع مالئ الدنيا وشاغل الأرض، تُرك وحيداً»، يقول حليف سابق. الثابت الوحيد هو النائب وليد جنبلاط، «لأن الأخير لا يريد مشاكل مع أحد». لكن زعيم المختارة ليس حليفاً للقوات.
تُسارع مصادر معراب الرسميّة إلى تأكيد «عدم الموافقة» على ما تقدّم. وتبدأ بالهجوم على من ينتقدها، «ولنوضح أنّه لا يوجد شيء اسمه «حالة» المستقلين. هؤلاء يوجدون إمّا ضمن ثلاثية جعجع ــ جنبلاط ــ الحريري، وإما ثنائية جعجع ــ الحريري. خلاف ذلك، مواقف تنظيرية وأشخاص لا وزن لهم ولا تأثير، ليس بمقدورهم القيام بدينامية تغييرية». ولكن طبعاً، «لهم الحقّ في التعبير عن رأيهم»! سمير جعجع، بالنسبة إلى مصادره، «لاعب أساسي في البلد، وليس أبداً وحيداً». فالتقاطع القواتي ــ العوني، «أنجز المهمّة المطلوبة منه: إنهاء الفراغ، رئيس قوي، قانون انتخابي، دينامية في المؤسسات. وذلك بصرف النظر عما إذا كنا سنتحالف في الانتخابات أو لا». أما بالنسبة إلى الحريري، «فلا نزال نتقاطع حول العديد من الملفات، آخرها العلاقة مع النظام السوري». اعتادت القوات اللبنانية «اتخاذ المواقف بناءً على مقاربة كلّ ملف على القطعة. يمكننا أن نتلاقى استراتيجياً مع أي طرف، ونختلف حول التكتيك». ولكن، هل «المطلوب أن نتخلى عن مواقفنا لنرضي هذا الطرف أو غيره؟». المطلوب أن تتوقف القوات عن المكابرة على الواقع السياسي. وتقوم بقراءة هادئة للتطورات. فقبل قرابة ثمانية أشهر من الانتخابات النيابية، لم تنجح القوات في نسج تحالفات جديدة، وخسرت حلفاءها السابقين… إلا المملكة العربية السعودية، رأس حربة المشروع الإقليمي الذي لم يربح بعد أي معركة خاضها منذ 6 سنوات إلى اليوم.