صدر الحكم بإعدام أحمد الأسير. حكمٌ لن يُنفّذ، لكن دلالاته كثيرة. ردود الفعل تنبئ بالكثير حيال شيخٍ أذكى نار الفتنة في لبنان. خُذِل الرجل الذي اعتقد لأشهر أنّه سيقود ثورة، لكن المشهد يختزل إجهاض مشروع يمتد من العراق إلى جنوب لبنان
بين 2012 و2017 خمس سنواتٍ فقط، كانت كفيلة بإجهاض حُلُم الشيخ أحمد الأسير ورفاقه. في شباط عام 2012، من ساحة الشهداء، وقف إمام مسجد عبرا يخطب بالجموع التي أعلنت «الزحف إلى بيروت». مع كل كلمة، كانت تهدر حناجر المؤيدين بالتكبيرات لـ«شيخ السنّة» الصاعد. أنشد المطرب التائب فضل شاكر يومها «سوف نبقى هنا». وبالفعل، بقي الشيخ، فيما تمكّن شاكر من الهرب.
حامل «لواء رفع مظلومية أهل السنّة» لم يكن يعلم أن الصورة ستنقلب رأساً على عقب في أيلول 2017 ليقف وحيداً في قاعة المحكمة العسكرية ينتظر الحُكم وهو يعلم في قرارة نفسه أن لا حُكم ينتظره سوى الإعدام، ولو أنّ الحكم سيُستبدل بالسجن مدى الحياة.
يوم أمس لخّص خمس سنوات أُجهِضت فيها مشاريع متعددة. قُضي على حُلم «إمارة الشمال». تنظيم «داعش» يلفظ أنفاسه الأخيرة. فرع «القاعدة في بلاد الشام» انكفأ إلى إدلب، بعدما كاد يُسيطر على سوريا. فيما حمَلَة هذه المشاريع بين قتيل وهارب وسجين. هذا المشهد كان ماثلاً أمام إمام مسجد بلال بن رباح ومؤيديه. أما بقية اللبنانيين فكان يوماً عادياً لهم، سواء في بيروت أو عبرا حيث خاض معركته ضد الجيش اللبناني وسرايا المقاومة. تبدّلت الظروف كثيراً حتى كاد يمرّ حُكم الإعدام من دون جلبة، لولا زحمة السير التي تسببت بها الإجراءات الأمنية في محيط المحكمة العسكرية، أو تلك التي نجمت عن احتجاج العشرات من ذوي الموقوفين تنديداً بالحكم، علماً بأنّ هناك 71 موقوفاً يحاكمون مع الأسير.
الشيخ الذي أوقف أثناء محاولته الهرب عبر مطار بيروت، روى أمام المحققين رحلته من عبرا إلى الشمال، ثم عين الحلوة وجدرا، وصولاً إلى مطار بيروت. أوصلته زوجته في صندوق سيارة إلى منزل رئيس «هيئة علماء المسلمين» الشيخ سالم الرافعي، حيث بقي نحو أسبوع، قبل أن يقيم لدى الشيخ خالد حُبلص لأسابيع، مقابل مبلغ كبير من المال. بقي الأسير في ضيافة حُبلص حتى بدأت المضايقات والحملة الأمنية على جماعة الأخير في الشمال، فقرر العودة إلى مخيم عين الحلوة. بقي هناك فترة طويلة، ثم قرر، لأسباب أمنية، مغادرة المخيم. تحدث عن محاولات عدة للالتحاق بالجبهة السورية عبر الحدود، وتحديداً عرسال، لكنه لم يُوفّق. فقرر السفر إلى تركيا للالتحاق بالمعارضة السورية، لكنه لم ينجح أيضاً. بقي على هذه الحال إلى أن لاحت له طريقة معينة لمغادرة البلاد. عندئذ تواصل مع أصدقاء من جماعة «بوكو حرام» للسفر إلى نيجيريا. بعد الحصول على أوراق ثبوتية، حصل على تأشيرة دخول إلى نيجيريا. غادر المخيم قبل 12 يوماً مشياً إلى منطقة الحسبة. هناك مكث في أحد المنازل لأيام، ثم تقرر نقله إلى منزل في جدرا. في المحطة الأخيرة، اتُّفق على أن يُغادر إلى المطار بتاكسي. وبالفعل حصل ذلك. صباح السبت انطلق الأسير. كان يحمل معه هاتفاً خلوياً يستخدمه حصراً للاتصال عبر تطبيقَي سكايب وواتساب كتابةً. وأبلغ زوجته: «إذا ما حكيتك الساعة 12، بكون اعتُقلت». وتحدّث الأسير عن دعمه مالياً وسياسياً، وكيفية حصوله على الأسلحة والدورات التدريبية على السلاح وتقسيمات مجموعاته، وذكر أنه كان يحصل على التمويل من مغتربين، كاشفاً أن أحدهما في البرازيل يعطيه المال تحت مسمى تبرعات، والثاني لبناني يعمل في قطر.
كل ما سبق تسبب به جنون الأسير في 23/6/2013. يومها أوقف حاجز للجيش اللبناني في عبرا اثنين من مناصريه بعد الاشتباه فيهما. وإثر مشادة مع عناصر الحاجز، اقتيدا إلى قيادة الكتيبة 14 في الصالحية. وصل خبر توقيفهما إلى الأسير، فاستنفر مناصريه، وأعطى الأمر لإحدى مجموعاته بإمرة أحمد الحريري والشيخ يوسف حنينة للتوجه إلى حاجز الجيش بسلاحهم لإزالة الحاجز. من هنا، روى الموقوفون القصة بحسب ما ورد في القرار الاتهامي الذي سرد الوقائع الآتية: فور وصول مجموعة الأسير إلى الحاجز، بادر أحمد الحريري الى مخاطبة الضابط المسؤول قائلاً: «بدك تشيل الحاجز». فردّ عليه الضابط: «رجاع لورا»، لكنه لم يمتثل وراح يصرخ عليه، ثم انهمر الرصاص على عناصر الحاجز، فاستُشهد ضابطان على الفور وأصيب أحد العناصر. عندها ردّ عناصر الجيش لتندلع الاشتباكات مع مسلّحي الأسير، ثم انفجر الأمر بإطلاق محمد النقوزي المعروف بـ«أبو حمزة» صاروخ لاو على ملالة عسكرية، ما تسبب باحتراقها بمن فيها. هكذا بدأت المواجهة بين الجيش ومسلّحي الأسير. إثر ذلك، سارع قادة المجموعات لدى الأسير الى إرسال رسالة نصية مشفّرة إلى عناصرهم بمضمون «تامر»، الكلمة التي تعني «وجوب الالتحاق الفوري بالمجموعة». وهكذا كان، التحق العناصر بنقاطهم المحددة لتبدأ عمليات القنص وتقطيع أوصال صيدا والمناطق المحيطة بعبرا. وانتهت المعركة بدخول الجيش إلى مقرّ الأسير بعد ثلاثين ساعة من الاشتباكات. وعلى شاكلة نهاية أحداث نهر البارد، تمكن الأسير وفضل شاكر ومجموعة من المقرّبين منهما من الفرار بطريقة غامضة، فيما اعتُقل عدد من مناصريهما بموجب لوائح اسمية. في هذه المعركة، سقط للجيش عشرون شهيداً ونحو مئة وخمسين جريحاً.
أمس، وقف الأسير مكسوراً محاولاً استعادة النبض نفسه. سجّل موقفاً ببضع كلمات مخاطباً اثنين هما المحامي العسكري الذي عيّنته هيئة المحكمة بعد اعتكاف وكلائه عن الحضور ورئيس المحكمة العميد حسين عبدالله. للأول قال: «أنت لا تمثّلني. أنا لا أعترف بك ولا بالمحكمة التي عيّنتك لأنها إصبع بيد النظام الإيراني الصفوي. أشرفلك ما تحكي باسمي». وبعد مرافعة المحامي العسكري، علّق الأسير قائلاً: «كلّ ما يصدر عن المحكمة هو باطل وهي سياسية خاضعة للهيمنة الإيرانية». لم يمرّ وقت طويل قبل أن يصدر حُكم المحكمة بإعدامه، وشقيقه أمجد غيابياً. كما حكمت المحكمة بالسجن 15 سنة على شاكر غيابياً. وأعلنت المحكمة العسكرية أحكامها بغياب جميع الموقوفين الذين نُقلوا فور انتهاء الجلسة إلى أماكن توقيفهم في سجني رومية وجزين.