تضع السُلطة في لبنان نفسها في مواقف «بايخة». كأنّه ينقصها. فعلتها أخيراً مع أصحاب المولّدات الكهربائيّة الخاصة. تحدّتهم فتحدّوها، هدّدتهم فهدّدوها، انتصروا هم فيما خسرت هي. إنّهم فرع مِن «الدولة العميقة». لقد تجذّروا. قضيّة معيشيّة أخرى تذهب في المجهول

في الشكل، أصبح مالكو المولّدات الكهربائيّة الخاصة (تبع الاشتراك) أقوى مِن السُلطة الحاكمة في لبنان. هذه لم تعد مجازاً لغويّاً. لقد ثبتت عياناً... وعلى الهواء مباشرة. كيف حصل ذلك؟ تُقرّر وزارتا الطاقة والاقتصاد، نهاية آب الفائت، أن تفرضا على أصحاب المولّدات «استبدال القواطع بعدّادات الكيلوواط» لدى جميع المشتركين (المواطنين).

تُمهلهم شهراً واحداً للتنفيذ تحت طائلة «اتخاذ التدابير الرادعة». انتهت المُهلة، قبل أيّام، بنهاية أيلول. ما كانت النتيجة؟ لا شيء. لم يمتثلوا. أوصلوا، على طريقتهم، إلى المعنيين أنّه «يُمكن للدولة أن تُبلّط البحر». لقد بلّطته فعلاً. تضخّمت ذوات أصحاب المولّدات، على مدى السنوات الماضية، إلى حد أن أصبح لكلّ مِنهم وكيله القانوني والناطق باسمه ومَن ينوب عنه ويمثّله أمام السُلطة. حضر وكلاؤهم قبل أيّام، بعد انتهاء المُهلة، واجتمعوا بوزير الطاقة. قدّموا أمامه مذكرة تتضمّن اعتراضهم ورفضهم تنفيذ القرار (رقم 135). طلبوا تشكيل لجان مشتركة، مؤلّفة مِن مندوبين عنهم ومندوبين عن السُلطة، للوصول إلى حلّ. أصبحت العلاقة ندّية. هذا ما أذاعه مِن هناك، مِن قلب الوزارة، وكيل أصحاب المولّدات المحامي محمود بعلبكي. طار القرار الحكومي. طار الملف إلى العام المُقبل. خرج الوفد منتصراً، أذعنت السُلطة، فظهرت منكسرة. بدت وكأنّها «أرنب».
لا علاقة لما آل إليه هذا الملف بما حصل في صيدا قبل أيّام. إنّها الصدفة! أصحاب المولّدات أقوياء جدّاً، أقوى مِن سُلطة دولة، أقوى إلى حدّ أنّهم يتعاركون في ما بينهم، معارك نفوذ، فيَقتلون ويَجرحون. قتيلان وجرحى حصيلة المعركة الأخيرة في صيدا. استخدموا أسلحة رشّاشة. ليست المرّة الأولى التي تحصل فيها «معارك نفوذ» مِن هذا النوع جنوباً. مَن أقوى مِنهم وهم يُنيرون عتمة لبنان؟ الكهرباء الحكوميّة فيها تقنين، أما كهرباؤهم فدائمة، وأحدهم يتعهّد في حديث مع «الأخبار» مدّ المشتركين بالكهرباء على مدار الساعة. يُدركون مدى «عجز» السُلطة هنا. إنّها اليد التي تؤلمها.

بمعنى أدق «تفضحها». قبل نحو ثلاث سنوات أطلق هؤلاء، فرعهم البقاعي هذه المرّة، النار على أحد المحوّلات الرئيسيّة لشركة كهرباء زحلة. تمّ تعطيله. حصل هذا أكثر مِن مرّة وفي أكثر مِن نقطة. ولادة شركة الكهرباء في زحلة، التي عادت وولدت بمعجزة، تعني «قطع أرزاقهم». بعضهم كان يخرج مكشوف الوجه، في وضح النهار، ويُهدّد أمام وسائل الإعلام بحرق كلّ محوّلات الشركة إن جرى القفز فوقه. في النهاية كان لا بدّ مِن صفقة. حصل ذلك. فرعهم الشمالي يجتمع بالمحافظ في قضاء زغرتا قبل نحو عامين. يُفاوضون «مِن أعلى». لم ينسَ سكان منطقة الصفير في الضاحية الجنوبية لبيروت حادثة «حرق المبنى». كان ذلك على خلفية نفوذ أصحاب المولّدات. لم تكن حادثة عابرة او فريدة مِن نوعها. مَن يجرؤ على مدّ نفوذ مولّده إلى زاروب محسوب على مولّد آخر؟ هذه فيها قتل. الخوّة تنفع أحياناً. تكون هذه بمئات آلاف الدولارات (350 ألف دولار مثلاً). إنّه قطاع «ربّيح». يُقال إنّه يُنتج في لبنان نحو ملياري دولار سنويّاً (البنك الدولي).
في الاجتماع الأخير لوكلاء أصحاب المولّدات مع وزير الطاقة، قبل أيّام، قال أحدهم للوزير: «عليكم أن تعرفوا، ونحن لا نمزح، أنّه في حال حُرّر ضبط مخالفة بحق أحدنا فإنّنا سنأخذ قراراً جماعيّاً بقطع الكهرباء التي نقدّمها في جميع المحافظات. سنغرق لبنان في العتمة». هذه ينقلها وكيل أصحاب المولدات، محمود بعلبكي، لـ «الأخبار». ويضيف: «نحن وحدنا من نجحنا في خلق وحدة وطنيّة (ممازحاً ساخراً)، فنحن مِن كلّ الطوائف، مِن الشمال والبقاع وجبل لبنان والجنوب وبيروت، نحن عبارة عن سبعة آلاف عائلة نعيش بفضل هذا القطاع. أحدنا اقترح على الحكومة أن تُلزّم الكهرباء، كاملة، إلينا كأصحاب مولّدات، على أن تشرف الوزارات المعنيّة على عملنا، وعلى أن يُدعم المازوت الذي نستخدمه، وعندها لكم منّا بأن تكون الكهرباء في منازل المواطنين على مدار الـ 24 ساعة». ما يقوله واقعي جدّاً. أكثر مِن 27 عاماً على انتهاء الحرب الأهليّة ووعود الكهرباء الكاملة تجتر وعوداً. إن كان هؤلاء هم الحل، فلِمَ لا؟ تجربة جديدة على مستوى العالم. لِمَ لا، ولبنان بلد الفرادة! عندئذ سيُسدّد المواطن اللبناني فاتورة واحدة لا فاتورتين. هذا هو منطق «الخصخصة» الآتية مِن «الشبّاك» هذه المرّة. يكشف «المتحدّث الرسمي» عن خبرة اقتصاديّة أيضاً، فيقول: «هذا الحلّ يبقي الأموال داخل لبنان، بين المواطنين، بدل أن تذهب إلى شركات خاصة وبعضها إلى الخارج، وبدل الحديث عن بواخر وما شاكل». إنّهم يُتابعون نشرات الأخبار. ويُكمل بعلبكي: «نحن لسنا ملائكة، نعرف هذا، والبعض منّا لا يلتزم بالتسعيرة التي تُقرّرها وزارة الطاقة، والبعض الآخر يتسبب في مشاكل ونزاعات، ولكن البعض الآخر يلتزم ولا أحد يشكو منه. لو نُظّم هذا القطاع فلن تعود هناك مشاكل».
في الاجتماع مع الوزير، أيضاً أيضاً، حاول الأخير أن يضغط عليهم مذكراً إيّاهم: «أنتم غير منظّمين، يعني عملكم بالأصل غير شرعي، وتعملون بحكم الضرورة، وبالتالي ليس لكم أن تشترطوا». ردّ عليه أحدهم: «لسنا شرعيين؟ إذاً لِمَ تتعاملون معنا، فتحددون لنا التسعيرة التي يجب أن نأخذها مِن المواطن المشترك، ولِمَ تفرضون علينا عدّادات الكيلوواط؟ تفرضون علينا أيضاً أن نضعها مِن مالنا الخاص. ما عجزتم أنتم كدولة عن فعله، تريدوننا الآن أن نفعله نحن؟». لا يُحسد وزير في لحظة كهذه. مَن يُغالطهم؟ إنّه ليس جرم وزير بعينه. إنها سياسة سُلطة، منذ أمد بعيد، أسّست لهذا الواقع المسخ واليوم تأتي لحظة تسديد الفاتورة. أصحاب المولّدات، إيّاهم، ما عادوا يعتبرون أنفسهم «غير شرعيين». لديهم مِن الثقة بأنفسهم ما يدفعهم لتقديم طعون في قرار الوزير أمام مجلس شورى الدولة. فعلوها أخيراً أكثر مِن مرّة. يُشبه هذا، إلى حدّ ما، حال أصحاب توزيع «اشتراك الستالايت». وضعيّة غير شرعيّة، لكن بواقع أقوى مِن القانون، تجعلهم يقبلون ويرفضون ويعترضون ويتحدّون الوزارات، بل يبتزّون الحكومة، ودوماً هذه الأخيرة ترضخ. بالمناسبة، ما غاية الحكومة مِن السعي إلى «التطبيع» مع أصحاب المولدات، أخيراً، مِن خلال تكريس وضع عدّادات وما شاكل، طالما أنّها تعد بـ«كهرباء كاملة» قريباً؟ مسألة مريبة. الظاهر أنّ الأزمة أبديّة. هلّ ثمّة مَن لا يزال يعتقد أن أصحاب المولّدات بعيدون عن أصحاب النفوذ الحكومي؟
أصحاب المولّدات أصبحوا «دولة عاصية». فلتعاقبهم السُلطة إن استطاعت. ستحلّ العتمة، وسيعود الناس إلى الشارع، كما كنّا نشهد قبل سنوات، فتقطع الطرقات بالإطارات المطاطيّة المشتعلة وينطلق الشغب. الناس الآن مخدّرون بفاتورتين. المسؤولون يعرفون هذا، ولهذا «يلبدون» على... خوائهم.

المصدر: محمد نزال - الأخبار