تحوّلت دار الإفتاء في بيروت في الأيام الماضية إلى خليّة نحلٍ. مواعيد مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان تبدأ عند التاسعة صباحاً، ولا تنتهي عند الرابعة بعد الظهر، والرجل لا ينفكّ يستقبل زائراً ليودّع آخر.
حِملٌ ثقيل تضطلع به مرجعية السنّة اللبنانيين، في ظل النكسة التي سبّبها إعلان الرئيس سعد الحريري استقالته من السعودية، والمفتي دريان «يتعامل بهدوءٍ ودراية، محاولاً امتصاص الأزمة بما فيه مصلحة الطائفة ولبنان»، كما يقول مصدر بارز في دار الإفتاء رفض الكشف عن اسمه. وتقول المصادر إن «الدار هي الجهة التي تحمل المسؤولية الكبرى وهي المرجعيّة الأولى للطائفة الآن، وسماحة المفتي يتعامل مع التطوّرات من هذا المنطلق، مع الحرص الشديد على حفظ استقرار البلاد ومعرفة مصير الرئيس سعد الحريري».
وفيما لم تزل الكثير من التفاصيل مبهمة حول سبب إعلان الحريري استقالته بهذا الشكل والخطاب العالي السقف الذي أطلقه ضد إيران وحزب الله، تزامناً مع شبه الانقلاب الحاصل داخل المملكة، يمكن القول إن دار الإفتاء تتعامل مع التطوّرات بحذر، بناءً على مجموعةٍ من الهواجس.
أوّلاً، ما يهمّ دار الإفتاء الآن هو معرفة مصير الرئيس الحريري شخصيّاً، وإن كان سيعود إلى لبنان قريباً أو أنه سيبقى في المملكة أو ينتقل إلى أي دولةٍ أخرى، في ظلّ غياب أي اتصال بينه وبين المفتي. وفي هذه النقطة تحديداً، لا تزال دار الإفتاء تتعامل مع الاستقالة كأنها ناقصة، وسط تأكيدها المنطق الذي يتعامل به رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس نبيه برّي حيال اعتبار استقالة الحريري ناقصة طالما أنّها لم تأخذ مسارها الدستوري الطبيعي.
ثانياً، تركّز دار الإفتاء على اعتبارها مكاناً جامعاً لأبناء الطائفة السنيّة في لبنان، بمعزلٍ عن الانقسام السياسي، وعلى هذا الأساس هدف الدار الأوّل هو وحدة الصف، انطلاقاً من التسوية الجامعة التي حصلت عشيّة انتخاب المفتي دريان بالإجماع، باتفاق بين كل الأطراف وغياب أي مرشّح منافس.
ثالثاً، تتخوّف دار الإفتاء من انعكاس الخلل الحاصل سياسيّاً، مع استقالة الحريري، على الوضع الداخلي اللبناني لناحية الاستقرار الأمني، وتعمل على ضبط الخطاب السياسي لممثّلي الطائفة، لأن الانسياق وراء الخطاب الذي ألقاه الحريري في السعوديّة، بمعزلٍ عن ملاحظات الدار على أداء حزب الله ومواقفه وانخراطه في الأزمة السوريّة والصراع الدائر مع المملكة السعودية، يجرّ البلاد والمنطقة إلى فتنة سنيّة ــــ شيعيّة كبرى، ودار الإفتاء ستواجه هذا الأمر بكلّ ما أوتيت من قوّة. وفي هذا السياق برز مؤشّران: الأول هو عدم تجاوب المفتي مع الضغوط التي مارسها «محرّضون» لتعميم خطب جمعة تصعيدية على المشايخ تهاجم إيران وحزب الله، وبدل ذلك جرى الحديث عن ضرورة معرفة مصير الرئيس سعد الحريري. ثاني المؤشّرات هو الأجواء التي رافقت زيارة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إلى الدار أمس، إذ علمت «الأخبار» أن جعجع حاول الغمز من قناة خطاب الحريري، وضرورة تبنّي دار الإفتاء لهذا الخطاب، إلّا أن المفتي تحفّظ على هذا الطرح، طالباً من جعجع في حال أراد التصعيد الكلامي أن لا يقوم بهذا الأمر من دار الإفتاء.
رابعاً والأهمّ، وفي ظلّ ما يحكى عن دفع سعودي وتهيئة ظروف لقيام العدوّ الإسرائيلي بشنّ حربٍ على المقاومة وعلى لبنان بالتزامن مع القلاقل الداخليّة، تؤكّد دار الإفتاء أن الرّهان على وقوفها على الحياد أو إلى جانب أيّ عدوان إسرائيلي على لبنان، محض أوهام، بصرف النظر عن الخلاف مع حزب الله على الكثير من العناوين. وتؤكّد المصادر أن «سنّة لبنان هم أساس في الموقف المعادي لإسرائيل والداعم التاريخي للمقاومة الفلسطينية واللبنانية. الخلاف السياسي مع حزب الله أمر، والوقوف ضدّ أي عدوان يستهدف لبنان وشعبه أمر آخر».
من جهة ثانية، لا تبدو مبادرة الرئيس نجيب ميقاتي ودعوته الدار إلى جمع القيادات السنيّة موفّقة، على الأقل الآن، مع خشية الدار من سعي البعض إلى الاستحواذ على إجماع لتسميّة رئيس حكومة بديل من الحريري.