تجاوز لبنان النقاش بين أن تكون استقالةُ رئيس الحكومة سعد الحريري طوعيّةً أو قسريّة، وصارت الأولوية لعودته الى لبنان. وهذا ما يُجمع عليه كل الأطراف من دون استثناء. وفي المقدّمة تيار المستقبل الذي أكّد تمسّكه بزعيمه، قاطعاً بذلك الطريق على أيّ طروحات لمبايعة شخصية سنّية بديلة عنه حتى ولو كانت من داخل البيت الحريري.

حتى الآن، لا مؤشرات حول عودةٍ وشيكة لرئيس الحكومة، لبنان يتحرّك في كل الاتّجاهات وطرق كل الأبواب العربية والدولية، لاختراق الغموض الذي يكتنف هذه المسألة، والخلاصة الاولى أنه لقي تجاوباً مع ما يسعى اليه لناحية العودة السريعة للرئيس الحريري الى بيروت، ولكنه في الوقت نفسه وقف على مجموعة كبيرة من علامات الاستفهام الدولية، ورسمها عددٌ من السفراء الاجانب، حول استقالة الحريري وزمانها والمكان الذي أُعلنت منه.

كان واضحاً أنّ رئيسَ الجمهورية ومن اللحظة الأولى للاستقالة، لم يقاربها كاستقالةٍ طوعية، بل تعاطى معها كاستقالةٍ قسرية، صار الهمُّ الأساس بالنسبة اليه، ويشاركه فيه الرئيس نبيه بري وكذلك تيار المستقبل، هو عودة الحريري، وذلك قبل البحث في أيِّ أمرٍ آخر، سواءٌ قبول الاستقالة أو عدمه. وهو ما أبلغه رئيس الجمهورية لكلِّ مَن التقاهم من العرب والأجانب، الذين سمع بعضهم من مستويات رفيعة في الدولة كلاماً واضحاً في هذا الموضوع لعلّ أبرزه أنّ الحريري لم يكن في وارد الاستقالة، بل لم تجُل في خاطره أيُّ فكرة من هذا النوع قبل مغادرته بيروت.



وأكبر كذبة هي ما قيل إنّ أمنَه كان مهدّداً، فمجرّد عودة بسيطة الى حركة الرجل في بيروت قبل سفره تُبيّن أنه كان يتنقّل بكل حرّية ولا قيود في كل الاتّجاهات، وأنه كان مطمئنّاً جداً للوضع الأمني في لبنان بشكل عام، وكذلك بالنسبة الى أمنه الخاص، وقد دفعه اطمئنانُه الى التحضير لعقد جلساتٍ لمجلس الوزراء في المناطق اللبنانية بمعدّل جلسة في منطقة معيّنة كل اسبوع".



حتى إنّ رئيس الجمهورية وكما ينقل لا يخفي تعاطفه مع الرئيس الحريري والغضب الذي ينتابه حيال ما أحاط الاستقالة وظروفها وما رافقها وتبعها، "المسألة ليست مسألة شخص، إنها مسألة كرامة وطن وكرامة دولة، الذي حصل غير مقبول أبداً". وقال أكثر من ذلك بكثير أمام بعض الزوار حول الحريري والظروف التي تحيط به في مكان وجوده، حتى إنّ حركة اللقاءات التي يُجريها الحريري في الرياض وخارجها، لم تقنع الرئيس عون الذي يُصرّ على "حجز حرّية الرجل"، ومِن هنا كان تذكيرُه أمام كل مَن التقاهم باتفاقية فيينا التي تعطي الحصانة الديبلوماسية لرؤساء الجمهوريات ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية وتمنع فرضَ أيّ قيود على أيٍّ منهم في أيِّ دولة أجنبية.



تيار المستقبل مقدِّر لموقف رئيس الجمهورية مِن رئيس الحكومة، وكذلك لموقف رئيس مجلس النواب وكذلك لمواقف سائر الأطراف المحلّيين ومقاربتهم المسؤولة لهذه المسألة، حتى إنّ بعض الخصوم الداخليين فاجأوا التيار بمواقف غير منتظرة، ومنها أنّ أحدَ وزراء المستقبل سمع كلاماً بالغَ الدلالة من زميلٍ له ينتمي الى فريق تربطه مع تيار المستقبل خصومةٌ شديدة، وفيه "نحن مختلفون سياسياً مع الرئيس سعد الحريري وهذا ليس خافياً، إنما في هذه المسألة الأمر مختلف، المسألة ليست مسألة شخص نختلف معه، سعد الحريري رئيس حكومة لبنان، هو رئيس حكومتنا، وأنا كمواطن لبناني أشعر بأنني طُعنت، ويجب أن يعودَ الى لبنان مهما كلّف الأمر".

واضح أنّ تيار المستقبل ليس في أسعد أيامه، ثمّة صدمة قوية تعرّض لها ومحنة قاسية يعيشها، وقد عبّرت عن نفسها في ما عبّر عنه قريبون جداً من رئيس الحكومة ومن قلب العائلة الحريرية، وثمّة مَن التقى النائب بهية الحريري ولمَس حجمَ التأثر لديها لا بل حجمَ الإحساس بالمرارة، كما عبّرت هذه المحنة عن نفسها في النقاشات الداخلية في التيار حيال استقالة الحريري وظروفها. بدا واضحاً أنّ لغة العقلانية هي الطاغية في التيار، وهو ما عكسه بيان كتلة المستقبل المكتب السياسي للتيار وكذلك في موقف وزير الداخلية.


هذه العقلانية وضعت هدفاً وحيداً لها، في هذه المحنة، يتلخّص بعودة الرئيس سعد الحريري قبل كل شيء. وقد غلبت بعض الأصوات التي ارتفعت مِن قبل قلّة داخل التيار وخارجه، ومِن داخل الكتلة تحديداً، دعا بعضُها الى رفع الصوت الاعتراضي ضد "حزب الله"، على اعتبار أنّ المسؤولية كلّها تقع على الحزب وهو المسؤول عن كل الذي حصل، ودعا بعضٌ آخر الى تحرّكاتٍ في الشارع على ما طَرَح أحدُ النواب في الاجتماع المشترَك للكتلة والمكتب السياسي حيث اقترح أن ينزلَ الناس الى الشارع ضد "حزب الله"، فسمع جواباً مفاده: "أسكت يا فلان، هل نسيت 7 أيار"؟


وبحسب ما ينقل عن الاجتماع أنّ نادر الحريري أبدى رأياً مهمّاً في الاجتماع، وشاركه فيه الوزير غطاس خوري مفاده "يجب عدم تضييع الوقت بشيء غير البحث في كيفية عودة الرئيس الحريري الى لبنان، وهذه هي النقطة المركزية التي يجب أن نعمل على أساسها".


هنا يحضر السؤال: هل سيعود الحريري؟ وإن عاد هل سيعود عن الاستقالة أم سيتمسّك بها؟

المهم أوّلاً، كما يقول مرجع سياسي هو أن يعودَ الحريري، وفي ضوئها يُبنى على الشيء مقتضاه سواءٌ أراد الاستقالة أو التراجع عنها. وثمّة إشارات تجعلني أتفاءل حيالَ إمكان العودة في وقت ليس بعيداً، وقد قرأتُها في ما قاله وزير الخارجية الاميركية ريكس تيلرسون بأنه "لا يوجد ما يؤشر الى أنّ الحريري محتجَز في السعودية رغماً عنه". وإنه "إذا كان الحريري سيتنحّى، كما أُفهم الأمر، فعليه العودة إلى لبنان لجعل (الاستقالة) رسميّة. آمل أن يفعل ذلك إذا كانت نيّته لا تزال التنحّي وذلك حتى تتمكّن الحكومة اللبنانية من أداءِ مهامها كما ينبغي".


وماذا لو لم يعد الحريري؟

يجيب المرجع نفسُه، ما زال الحريري رئيساً للحكومة، ولا بدّ أن يعود. ولن نتوقّف عن السعي في اتّجاه تحقيق هذه العودة، وليس مستبعَداً أبداً أن يفكّر رئيسُ الجمهورية بطرح القضية على مجلس الأمن الدولي.

ولكن ماذا لو عاد وثبت أنّ استقالته طوعيّة وتمسّك بها، يجيب المرجع: في هذه الحال يختلف الأمر، ويسلك لبنان طريقَ الاستشارات النيابية الملزِمة لتكليف رئيس الحكومة الجديد، والتي قد تعيد تسمية الحريري أو تُسمّي شخصاً آخر، وذلك مرتبط بالظروف.

أما إذا ثبت أنّ الاستقالة قسريّة فلا يبقى إلّا سبيل وحيد يقود الى قبول استقالة الحريري والدعوة مباشرة الى استشاراتٍ نيابيةٍ ملزِمة تُعيد تسميته بأكثرية كبيرة الى حدّ الإجماع رئيساً للحكومة الجديدة، بما يطوّقه باحتضانٍ داخليّ شامل، ويؤكّد حصانتَه من جديد كرئيسٍ لحكومة لبنان".


يبقى أنّ اللبنانيين يعيشون القلق منذ "سبت الاستقالة"، ويفاقم هذا القلق الشحنُ الإعلامي المستمرّ منذ ذلك الحين وما يتضمّنه من حديث عن عواصف سياسية واقتصادية ومالية وحتى عسكرية.


هنا يستعرض المرجعُ السياسي ما سمّاها سيناريوهاتٍ محتمَلة:


الأول، سيناريو العقوبات الإقتصادية، وهو سيناريو موجع، إنما هو لا يطال "حزب الله" وحدَه، بل يطال اللبنانيين كلهم.

الثاني، السيناريو الأمني، تفجيراتٌ وما شابه، وحتى اغتيالات لإحداث فتنة. وهو سيناريو مرعب لكلّ اللبنانيين، والسبيل الوحيد لمواجهته، طبعاً فتح العيون الأمنية أكثر، وكذلك وقوف اللبنانيين مع بعضهم البعض على نحو ما هم عليه اليوم. إذ نحن اليوم في وضعٍ وطنيٍّ لا سابقَ له.


الثالث، سيناريو الحرب، وهو أمرٌ بحسب ما نملك من معطيات غير وارد لا من قبل إسرائيل ولا من قبل غيرها.

المصدر: الجمهورية - نبيل هيثم