أتَت مقابلة الرئيس سعد الحريري، أول من أمس، بِخلاف ما توقّعه كثُر. وبدلاً من أن يتبيّن للبنانيين بعدها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وضعت إطلالته من حيث الشكل والمضمون الجميع أمام مسار جديد في الأزمة التي انفجرت في بيروت نتيجة إعلان استقالته يوم 4 تشرين الثاني الجاري. فبمعزل عن كون المقابلة زادت من حالة الغموض المحيطة بظروف هذه الاستقالة، انتقلت الأزمة بعد دخولها أسبوعها الثاني إلى مربّع آخر، بعنوان ماذا لو لم تحطّ طائرة الرئيس الحريري الخاصة في بيروت خلال أيام؟
فالرئيس الحريري قال إنه يستطيع مغادرة السعودية في أي وقت يشاء، مؤكداً أنه يملك كامل الحرية، وهو عائد خلال يومين أو ثلاثة. وحتى انقضاء هذه المهلة، سيكون لبنان في حالة ترقّب، قبل أن ترتسم في بيروت قواعد جديدة للعبة. إذ تؤكّد مصادر سياسية رفيعة المستوى أن «ما بعد يوم الخميس لن يكون كما قبله»، مشيرة إلى أنه «في حال عدم عودة الحريري الى لبنان، سيتأكد الجميع أنه ليس حرّ التصرف»، كما أن «حالة التعاطف الشديدة التي حصدها الرجل لن تحافظ على الوتيرة نفسها». وكشفت المصادر أن «التصعيد بعد ذلك التاريخ سيكون هو عنوان المرحلة». وفيما رفضت هذه المصادر تحديد شكل التصعيد وسقفه، لمّحت إلى أن «تيار المستقبل سيكون هو الواجهة، إذ ليس من المنطق أن يكون رئيس الجمهورية ومجلس النواب في إدارتهما للأزمة ملكيين أكثر من الملك. فتيار الرئيس الحريري وجمهوره معنيان أكثر من غيرهما بهذه العودة».
في المقابل، تجزم مصادر دائرة القرار في تيار المستقبل بأن «أحداً لا يملك جواباً حول تاريخ عودة» الحريري، قائلة: «لا نعتقد أنه (الحريري) نفسه يملك الجواب»، إذ «لا إشارات جدّية تشي بعودة قريبة. فالمملكة وحدها من تملك قرار الاستجابة للتمنيات الدولية قبل أن تتحوّل إلى ضغوط». ووصفت أوساط الدائرة كلام الحريري في المقابلة التي «حصلت في بيت الضيافة التابع لقصره»، بأنه «زاوج بين بيان الاستقالة، وخطاب المرحلة التي سبقتها». صحيح أن «سقفها الإقليمي كان عالياً، لكنه حمل أكثر من رسالة للتفاوض». وفيما استغربت عدم صدور أي بيان رسمي روسي إزاء كل ما حدث، لفتت إلى أن «المواقف الغربية تصبّ لمصلحة لبنان، لأنها تحرج المملكة في إصرارها على ضمان الاستقرار في البلد، والذي تعدّ عودة الرئيس الحريري جزءاً منه».
وفي تقدير أوساط سياسية على صلة بمجريات ما يحدُث، انطوت مقابلة الحريري على مجموعة معانٍ:
أولاً، أن مضمونها كان أفضل من شكلها، وخصوصاً أنها أظهرت تراجعاً ولو بسيطاً في الموقف التصعيدي السعودي، تحت وقع الضغوط الدولية. إذ لم يلامس مضمون المقابلة مضمون بيان الاستقالة – الأزمة، بل على العكس، استخدم الحريري الكثير من الأدبيات التي تُخالف منطق الرياض، حين تحدّث مثلاً، بإيجابية، عن الرئيس عون، الذي يتعرّض لأشرس حملة سعودية منذ انتخابه رئيساً.
ثانياً، لم يستفزّ الحريري حزب الله، بل استخدم سقفاً مقبولاً نسبياً، يقع بين خطابه الذي كان يستخدمه طوال العام الماضي، وبين بيان الاستقالة.
ثالثاً، أكدت المقابلة أن رئيس الحكومة مغلوب على أمره، ومخطوف قراره، وهذا ما سيدفع الرئيسين عون وبرّي إلى الحفاظ على جبهة متماسكة ومتراصّة.
ومع أن الرئيس الحريري كرّر أن مصلحة لبنان تتجلى في النأي بالنفس، وأشار إلى ضرورة التمسك بها لإعادة إنتاج التسوية، لمّح ولو بطريقة هامشية، إلى أنه قد يكون مستعداً للتراجع عن الاستقالة، إذا ما التزم الطرف الآخر بشروط معينة، أساسها النأي بالنفس وعدم التورط في الصراع في المنطقة. مع ذلك، لا يزال منسوب التوتر والخوف عالياً في تيار المستقبل ووسط جمهوره. إذ بحسب مصادر التيار، «زادت المقابلة حجم الإحباط عندهم. ففي الوقت الذي انتظر فيها هؤلاء أن يبدّد الرئيس الحريري كل الهواجس، جاءت النتائج عكسية. وتوسّعت مساحة الاعتراض داخل هذه البيئة ضد المملكة العربية السعودية، إذ كان للمقابلة تأثير عاطفي سلبي، حتى عند آل الحريري أنفسهم». وبمعزل عن الشكل، رأت المصادر أن «الجوهر الأساسي في المقابلة هو ظهور تراجع سعودي، يؤكّد أن المملكة صارت ملزمة بإعادة الرئيس الحريري الى لبنان»، غير أن «هذه العودة لا تعني تراجعاً عن الاستقالة». ورجّحت المصادر أن يكون السيناريو الأقرب إلى الواقع هو «قيام الرئيس الحريري بالإجراءات الدستورية اللازمة، وتقديم استقالته الى رئيس الجمهورية، على أن يقبلها الأخير ويقوم باستشارات نيابية، يكلّف الرئيس الحريري بعدها بتأليف حكومة بأكثرية ساحقة، من دون أن ينجح في ذلك. فتبقى البلاد حتى موعد الانتخابات النيابية في ظل حكومة تصريف أعمال».