ارتدادات ازمة احتجاز سعد الحريري مستمرة على تيار المستقبل وعلى لبنان، خصوصاً أن المعالجة التي حصلت لم تُصب جذر الموضوع. ما حصل، عملياً، هو استسلام السعودية بعد فشل المحاولة الاولى لإطاحة سعد الحريري، وهزّ الاستقرار السياسي في لبنان. صحيح أنهم خضعوا لضغوط فرنسا ثم الولايات المتحدة، لكنهم لم يقدموا أيّ تعهد بإعادة الامور الى ما كانت عليه، وهو ما يجعل مهمة الحريري المقبلة صعبة ومعقّدة.
كان واضحاً أن أزمة الحريري مزدوجة؛ شقّ يخصّ دوره في لبنان، وآخر يتعلق بموقعه في المعركة التي يشنّها محمد بن سلمان ضد خصومه المحليين. لكن، لندع الملف الشخصي والمالي للحريري جانباً، ولنركز على البعد اللبناني. ذلك أن مطالب السعودية من رئيس الحكومة لم تسقط، وهي تتركز على خلق واقع في لبنان يهدف الى الضغط على حزب الله وعلى حلفائه، وفي مقدمهم الرئيس ميشال عون.
وبما أن الحريري عائد الى بيروت قريباً جداً، وسيكون عنده ما يشرح موقفه السياسي ويدل على وجهته الجديدة، فإن النقاش، الآن، انتقل الى كيفية التعامل مع المطالب السعودية التي تنعكس ضغوطاً متنوعة على لبنان. وبالتالي فإن الجميع سيلاحظون فروقات جدية في الخطاب اللبناني عن خطاب الاسبوعين الماضيين.
حتى الأمس، وقف لبنان بكل أطيافه ضد خطف الحريري، وضد إجباره على مغادرة التسوية الداخلية. وكان هناك تضامن غير مسبوق مقارنة بشكل الانقسام اللبناني، ومن شذّ عن هذا التضامن هم فقط أنصار الوجهة السعودية بتخريب لبنان، وفي مقدمهم القوات اللبنانية والمنشقون عن تيار المستقبل. وهذا أمر سيعقّد مهمة السعودية بإجبار الحريري على خوض معركة داخلية بعناوين ورقة الاستقالة التي أجبر على تلاوتها من الرياض.
وسيكتشف السعوديون، أيضاً، أن الحريري الذي صمد خلال فترة احتجازه في الرياض، ولم يقدم تنازلات تطابق رغبات ابن سلمان، لن يكون في قلب معركة ضد الوحدة الوطنية أو ضد رئيس الجمهورية أو حتى ضد المزاج الشعبي الذي لم يكن مستنفراً ضد حزب الله، بل كان واضحاً في تحميل السعودية مسؤولية ما يحصل، مع نقمة واضحة على تصرفات آل سعود مع من يفترض أنه ابنهم وممثلهم الابرز في لبنان.
مع ذلك، فإن الحريري، ومن خلال تسريبات خاصة، مهتم بأن تستمر مساعدة عون وحزب الله له، وأن يساعداه في إيجاد مخرج يعفيه من استمرار العقاب السعودي له، ويتيح له العودة عن الاستقالة وترميم التسوية السياسية مع الآخرين.
لكن المشكلة تكمن في أن السعودية مهتمة بجانب آخر محصور بالدور الاقليمي لحزب الله، وهو جوهر ما تريده من كل ما تقوم به، إذ تعتقد الرياض أن بمقدور القوى اللبنانية إجبار الحزب على التخلي عن عضويته الفاعلة في محور المقاومة، وعلى التراجع عن دوره الكبير في سوريا والمنطقة. وهناك، أيضاً، أوهام سعودية غريبة بأن الحزب قادر على ضبط «أنصار الله» في اليمن، وعلى وضع جدول أعمال مواجهتهم مع السعودية.
في هذا الشق، ليس منطقياً أن يُفاجأ اللبنانيون بتغيّر المواقف، إذ إن من شبه المستحيل الحصول على إجماع لبناني ضد حزب الله. وما شهده الناس من تعامل مسؤول من جانب الرئيس عون أو حزب الله في ما يتعلق باستعادة الحريري لحريته، قد لا يتكرر في حالة مواجهة المطالب السعودية. وبمعنى أدق وأوضح: إذا كان اللبنانيون ملزمين بالعمل على توفير كل متطلبات خروج الحريري الى الحرية، فهم ليسوا ملزمين بالعمل، وفق الوتيرة نفسها والجوهر نفسه، في حالة المطالب السعودية. ومن الخطأ، لا بل من السذاجة، الاعتقاد بأن حزب الله سيستنفر، مثلاً، لمعالجة أزمة السعودية الناجمة عن خسائرها في العراق وسوريا واليمن. بل إن الحزب سبق أن أبلغ كل العاملين على خط الرياض، بأن أساس العلاج وقف التدخل السعودي في دول المنطقة، ووقف الحرب المجنونة والهمجية التي تشن ضد الشعب اليمني. وبالتالي، من ينتظر تنازلات من جانب حزب الله لارضاء السعودية واهم.
كذلك الحال بالنسبة إلى رئيس الجمهورية الذي تصرف بمسؤولية لم يلمسها اللبنانيون سابقاً عند مسؤول بارز في الدولة. فقد شعرت غالبية لبنانية ساحقة بأن في لبنان رئيساً يحظى بشعبية حقيقية، وبثقة حقيقية، ويملك القدرات والمهارات والاقتناعات التي تمكّنه من لعب دور وطني، بحجم الازمة التي افتعلتها السعودية عبر احتجاز الحريري.
لكن الرئيس عون لم يكن يجهل، لحظة واحدة، أن سعي السعودية لإطاحة الحكومة وشنّ الهجمات عليه، لم يكن يقصد إطاحة الحريري أو معاقبته وحده، بل كان يستهدف أساس التسوية التي أعادت الحريري الى السراي، والتي قامت على انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية. وبالتالي، فإن الرئيس عون يعرف أن السعودية تريد رأسه أكثر مما تريد رأس الحريري نفسه. وهذا بحدّ ذاته يشكل عنصر قلق وشك عند الرئيس حيال كل ما تطلبه السعودية، أو كل ما تقوم به عبر عملائها في لبنان وحلفائها في الاقليم والعالم. ولذلك، فإن الرئيس عون لن يكون سهلاً في التعامل مع هذه الازمة، وهو سيقول للحريري ما يمكن القيام به لتجديد العقد السياسي خلال المرحلة المقبلة. لكنه لن يقبل أن يتم جرّه الى مواجهة جديدة هدفها تهديد الاستقرار في لبنان، أو الانخراط في معركة ضد حليفه الأبرز والأقرب، أي حزب الله.
كل ذلك يعني، ببساطة، أن لبنان الذي تصرّف بحكمة ووطنية وبخلفية أخلاقية وإنسانية تجاه أزمة الحريري، لن يكون على نفس الصورة إزاء أزمة السعودية. وهو ما قد يكشف ما تبقى من أوراق مستورة في أيدي السعوديين. وقد تكون بينها محاولات إضافية لزعزعة الاستقرار الداخلي، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، علماً بأن الجميع في لبنان، وحتى حلفاء السعودية، يعون جيداً أنه لا وجود لأرضية شعبية لبنانية مستعدة لتخريب لبنان، من أجل مزاج أمير مجنون، يحتاج الى كرسي في مركز للحجر الصحي لا الى كرسي حكم!