الارتدادات اللبنانية لزلزال مجنون الرياض محمد بن سلمان لا تزال مستمرة. لا يتعلّق الأمر فقط باحتجاز الرئيس سعد الحريري ثم استعادته حريته المهدّدة بشروط. بل إن مخطط الانقلاب لم يكن يترك تفصيلاً من دون العمل عليه. ومع فشل الجولة السياسية الأولى، لم تُسدل الستارة بعد عن بقية الفصول، ومنها الإعلامي، وضمناً الإعلاني.
ورغم محاولة الرئيس الحريري نفسه التغطية على أمور كثيرة، رغبة منه ومن فريقه بعدم التصعيد مع الرياض، فإن ما يظهر، تباعاً، يكشف أن العملية بجانبيها السياسي والإعلامي كانت محضّرة كما هو بيان الاستقالة. وهو ما تسرّع وزير الحرب السعودي ثامر السبهان في استهلاكه دفعة واحدة، في الأيام الأولى للانقلاب، فكشف عن أوراق كثيرة كان يعتقد أنها ستكون حاسمة في قلب المشهد. علماً أن السبهان ومن يقف خلفه لا يزالون، على ما يبدو، مؤمنين بالنمط التقليدي للانقلابات: اعتقال المنقلَب عليهم، والسيطرة على القوى الأمنية والجيش، واحتلال الإذاعة والتلفزيون، وتلاوة البيان الرقم واحد!
في الشهور التي تلت انتخاب الرئيس ميشال عون، كان السبهان يبني شبكته المحلية، الحزبية والسياسية والإعلامية وحتى الأمنية. وعندما تقررت الساعة الصفر، أطلق أمر العمليات بعد دقائق على تلاوة الحريري بيان الاستقالة المريب. وخلال ساعات، امتلأ المشهد الإعلامي في لبنان، وحيث تصل يد مملكة القهر، بمحللين اعتبروا الاستقالة فعلاً إرادياً، وان مضمونها هو إعلان حرب على الخصم المشترك لكل هؤلاء: حزب الله!
وسرعان ما تبيّن، في بيروت، أن عدّة الشغل تشمل كل الذين اعتبروا أنفسهم متضررين من التسوية الرئاسية التي حملت عون والحريري إلى سدة الحكم. ويشمل هؤلاء بقايا 14 آذار، و«القوات اللبنانية»، وجناحاً قوياً في حزب الكتائب، وصولاً إلى المنشقين عن تيار «المستقبل» وفي مقدمهم اللواء أشرف ريفي. إضافة إلى حشد من الإعلاميين الذين أبعدتهم مناخات التسوية عن الشاشات لشهور طويلة، وبينهم من يشغل مناصب بارزة في وسائل الإعلام التابعة لـ 14 آذار وتيار «المستقبل» نفسه. أما المتردّدون ممن خسروا الدعم في السنتين الأخيرتين، فقد فُتحت الحقائب الكبيرة على طاولاتهم. وفي انتظار انتهاء تحقيقات جهات معنية، وقريبة من السلطة في لبنان، فإن الحديث يدور عن ملايين من الدولارات، صُرفت على عجل، بغية إشاعة المناخ الداعم لمحاولة الانقلاب.
الحريري نفسه، الذي اكتشف وفريق محدود من مساعديه حجم الانقلاب، أظهر الى جانب الشجاعة، حكمةً ظهرت في سلوك الأوفياء له من مساعديه وأنصاره. وهذا ما دفعه الى الإبقاء على خط التواصل الوثيق مع من وُضعوا فوراً في دائرة الشك، وتم استخدامهم للتغطية على المعركة الكبيرة التي دارت على جنبات المشهد الإعلامي، حيث لم يكن أحد، خصوصاً في وسائل الإعلام القريبة تقليدياً من 14 آذار، قادراً على الإشارة إلى أن الحريري يمرّ في ظروف غير طبيعية. وبالتالي، كان على هؤلاء العمل تحت ضغط مزدوج: الاغراء بمعالجة أزماتهم المالية في حال انخراطهم الكامل في المعركة، والخضوع للتهويل الذي أُريد له تثبيت أن ما يقرره الملك يصبح واقعاً. ودخل الجميع في حكايات خرافية، كان أجملها على الإطلاق تصرف «صبية السبهان» على ان طائرات مقاتلة أقلعت لضرب مواقع حزب الله في لبنان.
وفيما كانت وسائل إعلام، تشمل «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، و«مر.تي. في» و«المستقبل»، إضافة الى صحف «النهار» و«اوريون لوجور» ومواقع الكترونية عدة، تخوض معركة التعمية على حقيقة احتجاز الحريري، كان الإرباك يزيد في صفوفها يوماً بعد يوم. لا سيما مع انكشاف المحاولة، واحتواء الحكم للصدمة الاولى، والبدء بالهجوم المضاد. وحصل في هذه الفترة الكثير من المعارك الجانبية، وعمليات البيع والشراء، قبل ان تهدأ العاصفة، على موقف أوروبي جعل إبن سلمان وصبيته في لبنان ينسحبون تدريجياً نحو مربع الصمت، الى ان انتهى المشهد على احتفالية بائسة لهؤلاء بخروج الحريري من الرياض الى فرنسا، ثم عودته الى بيروت.
على أن فصلاً لا يقل حساسية، يتعلق بالمقابلة التلفزيونية التي أجرتها بولا يعقوبيان مع الحريري أثناء احتجازه في منزله في السعودية. إذ بدأت الأخبار تتوالى عن كيفية اتخاذ القرار بالمقابلة، ومن قرر ان تتولى يعقوبيان المهمة، وعن دور مدير الأخبار في تلفزيون «المستقبل» نديم قطيش في هذه العملية، اضافة الى تفاصيل مشوّقة حول ما رافقها من إجراءات جعلت الحريري يستفيد منها، بخلاف ما قرره رجال السبهان في بيروت والرياض، وسط اتهامات قاسية ــــ مصدرها عائلة الحريري ــــ لإعلاميين كانوا شركاء في محاولة جعل المقابلة محاولة لنفي كل كلام عن ان الرجل فاقد لحريته.
وبحسب ما تجمّع حتى الآن من معطيات، فإن الحبكة كانت تتطلب هجوماً شاملاً يشمل بيانات وتصريحات ومقابلات وبرامج هزلية وسياسية وزخّات من التغريدات والأخبار المجهولة المصدر. لكن «شيئاً ما حصل» أدّى الى تعطل الحملة، ودفع خصوم الحريري الى التريث، قبل ان ينكشف أمر «أبناء الدار» منهم، الذين جرى نعتهم بـ«أهل الغدر وجواسيس السبهان وكتبة التقارير». وقد يكون من الصعب على الحريري وفريقه رفع الغطاء عن هؤلاء دفعة واحدة. لكن الابتسامات، وإن أمسكت بما هو عالق في الحناجر، لا تخفي ما في القلوب!
القناة في مهب الرياح
معاون ابن سلمان يدير «الفوضى غير البنّاءة» في MBC
قبل سنوات، واجه أحد مديري شبكة «MBC» مشكلة مع الولايات المتحدة، فتدخل مكتب حاكم دبي محمد بن راشد لدى القنصلية الأميركية في الإمارة لمعالجة المشكلة. وكانت الكلمة المفتاح: هذا الرجل موظف رئيسي في القناة التي تروّج لثقافتكم في بلادنا؟
القناة التي أصبحت الأكثر انتشاراً ونفوذاً في العالم العربي، توسّعت لتوفر الخدمات لجميع أفراد العائلة، من الأطفال الى كبار السن، مع اجتياح غبر مسبوق لجيل الشباب. وإذا كانت هذه المهمة قد احتاجت الى 25 سنة من الجهد والإنفاق الخيالي، إلا أنها لم تحتج الى أكثر من 5 أيام لجعلها في مهب الرياح، وتحويلها الى مسرح لأبشع عمليات انتقام بين المشرفين عليها.
مع اعتقال صاحب الشبكة الوليد الإبراهيم، انقطع الاتصال مع صاحب القرار الأوحد. حتى عائلة الرجل لا تعرف أيّ تفاصيل عنه. وتحاول نساء العائلة وكبارها التوسط لدى الديوان الملكي أو أجهزة الأمن للتثبت من مصيره ووضعه الصحي بعدما انضم الى حلقة الرهائن من خصوم محمد بن سلمان المحتجزين في فندق «ريتز كارلتون» في الرياض. المتصلون بالعائلة يتحدثون عن تحوله إلى ورقة ضغط على شقيقته الجوهرة أرملة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز التي تعيش في جنيف حالياً، والتي يريد ابن سلمان ما بحوزتها وملفات المقربين منها الذين كانوا يستفيدون مالياً من الديوان أيام حكم فهد. وقد جرى التعرف إلى قسم من هؤلاء بعد الاستماع الى إفادة محمد سليمان (متزوج بلبنانية) الذي عمل مديراً لمكتب الملك فهد نحو عقدين من الزمن.
ابن سلمان لم يكتف بتوقيف الإبراهيم، بل قبض على 10 من إخوته، وروعي في اعتقالهم عزلهم بعضهم عن بعض لمنع التواصل بينهم. وسرت شائعات بأن ابن سلمان يدقق في معلومات عن مبالغ مالية كبيرة من خزينة الدولة تقاضاها الإبراهيم لدعم مؤسسته، مع إعفاءات من رسوم كثيرة، علماً بأن العائدات الإعلانية الكبيرة كانت تغني الـ MBC عن هذا الدعم. وتدقق السلطات السعودية في معلومات عن تحويله، في السنوات الأخيرة، نحو خمسة مليارات دولار، بعضها من عائدات عقود إعلانية، الى حسابات خاصة في أوروبا.
ومع اعتقال الإبراهيم، دب الذعر في مفاصل القناة. وعاش المديرون والمسؤولون التنفيذيون أياماً عصيبة، بعدما غابت المرجعية الحاسمة في كل شاردة وواردة. وتعززت المخاوف لدى العاملين بعد تجميد صلاحيات بعض المديرين، وإجراء تغييرات، وسط نفوذ غير مسبوق للسعودي تركي آل الشيخ الذي يعدّ من رجال ابن سلمان وأحد المستشارين في الديوان الملكي.
التغييرات بدأت بتوقيف برنامج «et بالعربي» قبل أيام من اعتقال الإبراهيم، بعد نشره خبراً عن زواج تركي آل الشيخ بمغنية مصرية. ومع اعتقال الابراهيم، فجّر تركي غضبه على القناة، وأجبر المنتجة سمر عقروق (تعمل في القناة منذ 20 عاماً) على الاستقالة، علماً بأنها زوجة الأردني أيمن الزيود مدير شركة «كاريزما» التي تتولى إنتاج «et بالعربي».
ويجري تركي تغييرات عشوائية في القناة، من دون أن يستشير أحداً، علماً بأنه يقدم نفسه كمثقف وعاشق للشعر، ويتندّر عاملون في القناة بأنه دفع مبلغاً مالياً كبيراً مقابل موافقة الفنان المصري عمرو دياب على إنتاج ألبوم من أشعاره، صدر الصيف الماضي. كما أنه كتب أخيراً أوبريت «علّم قطر» التي أدّاها مطربون خليجيون هاجموا فيها قطر بسبب «خيانتها للعرب».
مستقبل القناة مجهول لدى غالبية العاملين فيها. بعضهم بدأ يبحث عن عمل، رغم التطمينات التي صدرت عن الإدارة. لكن توقف بعض المصاريف الإنتاجية أثّر على شبكة من البرامج، وسط شائعات عن نية الحكومة إقفال مكاتبها واستديواتها في بيروت ودبي ونقلها الى السعودية. وينقل عن مسؤولين في الرياض قولهم لمراجعين من قبل القناة، إنه لن يكون هناك تغيير كبير، بل انتقال الإشراف الى رجالات البلاط السعودي، وسط تأكيدات بأنه سيصار الى الاستغناء عن خدمات أسماء بارزة، وخصوصاً من جنسيات غير خليجية.
والاحتمال الأقوى، الذي يصعب حسمه الآن، هو إخضاع المحطة بكامل قنواتها وبرامجها لسلطة «هيئة الإذاعة والتلفزيون السعودي» التي عيّن الصحافي داود الشريان رئيساً لها، علماً بأن له أصدقاء كثراً داخل المحطة، وكان يقدم أبرز برامجها السعودية المحلية «الثامنة»، وله سمعته المهنية الجيدة في الأوساط الإعلامية السعودية والعربية.
معلوم أن القرار النهائي بشأن المحطة سيكون له تأثيره على دول عربية عدة، أبرزها الإمارات العربية المتحدة، ولا سيما إمارة دبي التي اتخذت «MBC» منها مقراً رئيسياً لها، وكانت لها مساهمتها في بناء «مدينة دبي الإعلامية» التي يعتبرها حاكم الإمارة محمد بن راشد واحداً من أهم إنجازاته. ويظهر مقربون من ابن راشد خشية من قرار سعودي بضرب الواجهة الإعلامية للإمارة.
كذلك، ستكون بيروت من الخاسرين لأن القناة تشغّل عشرات العاملين، كما أن عقد التعاون الموقّع بينها وبين المؤسسة اللبنانية للإرسال سيكون معرضاً للتعطيل، بالإضافة الى احتمال التوقف عن تمويل مشاريع درامية كبيرة تنتج في بيروت وسوريا.