غالباً ما تحتّم التقاليدُ التوافقَ الضمنيَّ بين رأس الكنيسة ورأس الجمهورية، إلا أن البطريرك بشارة الراعي الذي أطاح البروتوكولات منذ لحظة تسلمه منصبه، أبى إلا أن يقف في وجه رئيس الجمهورية ليصطفّ وراء السعودية ضد إجماع الدولة اللبنانية. دعسة الراعي الناقصة أعادت بكركي إلى الظل السياسي بعد فشلها في تعويم دورها الرعوي في معظم نشاطاتها
رلى إبراهيم
عقب انتخاب البطريرك بشارة الراعي، علّقت آمال الكثير على تغيير جذري في توجهات بكركي التي بقيت لسنوات طويلة تناصر فريقاً على آخر. وكان ذلك من صلب مهمات الراعي الذي تمكن من جمع القيادات المسيحية المتنازعة برعايته، حيث تم الاتفاق على خطوط عريضة بشأن قانون الانتخابات.
ولكن ما كادت بكركي تزهر حتى حلّ الخريف فيها سريعاً، فبدأت دعسات البطريرك الناقصة تطغى على أي حدث إيجابي وسقطت البروتكولات والأعراف، الواحد تلو الآخر، باستسهال تام. وبدا أن الراعي الذي ابتدأ عهده بقوة واعداً بإصلاحات جذرية وانقلاب أبيض، لم ينجح في إحاطة نفسه بفريق عمل جدّي يواكب تحركاته ويحرص على إنجاح زياراته وأنشطته. فاستعاض عنه بفريق من رجال الأعمال الباحثين عن أي غطاء بعد رفض الأحزاب السياسية إيواءهم، وبعض المقربين والأصدقاء الذين يستغلون الصرح للتسويق لأجنداتهم، بعدما عزلتهم الأحزاب السياسية وأعادتهم الى أحجامهم الحقيقية.
للصرح أصدقاء كثر، وعند كل مفترق سياسي أو اجتماعي أو ديني، تجنح بكركي صوب أفكار «صديق» وتتبنى مشروعه كاملاً، لا بل تستشرس في القتال عنه وكأنه مولودها الخاص. هكذا، قرر الراعي زيارة سوريا في عز الأزمة من دون خريطة طريق واضحة ولا أجندة محضرة مسبقاً، فيعود كما ذهب وتنتهي القصة بحرب سياسية وإعلامية من قوى 14 آذار على البطريركية. وهكذا أيضاً، باتت التناقضات في التصريحات وسماً يتفرد فيه سيّد الصرح. فتارةً يثير السخط في فرنسا من على درج الإليزيه نتيجة تفضيله «السيئ على الأسوأ»، خلال حديثه عن الأزمة السورية ومعارضته القاطعة لما يسمى «الربيع العربي». وتارةً يهاجم حزب الله لتدخله في سوريا، ما سبّب «انقساماً» في الساحة المحلية. لاحقاً، هب الراعي وصديقه النائب السابق فارس سعيد لـ«نصرة القدس»، متشبثاً بهدف دعم أبناء الرعية في فلسطين، فإذا بالزيارة تنتهي بالتسويق للتطبيع وزيارة الأراضي المحتلة، ولتبرئة عملاء لحد الذين التقاهم الراعي هناك في زيارة كانت «رعوية» بامتياز. فيما أخيراً، ارتأى سعيد نفسه في عشاء حميم مع الوزير السعودي ثامر السبهان، أن من المفيد للسعودية استقبال الراعي، في إطار تأمين مظلة مسيحية لمشروع مواجهة رئيس الجمهورية ميشال عون وحزب الله. سريعاً، أعجب الراعي بنباهة سعيد وأفكاره اللامعة، ولكن لـ«الصدفة»، تزامن موعد الزيارة مع احتجاز السعودية رئيس الحكومة سعد الحريري، حيث بلغ التوتر في العلاقة بين المملكة ورئيس الجمهورية حدّاً لم تشهده الدولتان من قبل. لذلك، كان من المفترض أن يؤجل الراعي زيارته، ريثما يتم استيضاح مصير الحريري. مرة أخرى، استشرس الراعي في الدفاع عن الأجندة السعودية لصديقه وعرّاب رحلته، فارس سعيد، فأبى إلا أن يلتزم بالموعد دائماً بحجة الهدف «الرعوي» لا «السياسي»؛ ذلك علماً بأن التقاليد والأعراف كانت تحتّم تكامل الموقف بين رأس الدولة ورأس الكنيسة. وبالرغم من ذلك، كان بإمكان الراعي أن يخالف كل الآراء المنادية بإبطال الزيارة عبر تحقيق خرق ما في إطار حوار الحضارات يريحه من جهة، ويريح مسوق الفكرة، أي السعودية، ويحيد الأنظار عن الأزمة الدولية التي ورطت نفسها بها. غير أنه، هنا أيضاً، لم يخرج الراعي من سياق الحدث الآني الذي انتهى مع مقابلته للحريري، أي حتى قبل انتهاء الزيارة، حيث كان اهتمام اللبنانيين محصوراً بهذه النقطة! وحتى الساعة، لم يتمكن أحد من استبيان ما حققته الرحلة الى السعودية، طالما أن البطريرك لم يلتق أي فريق ديني في إطار الحوار المنوي إقامته، بل اقتصرت لقاءاته «السياسية» على الملك السعودي وولي العهد. والسؤال الرئيسي: ماذا حقق الراعي مما سبق سوى مخالفة إجماع الدولة اللبنانية وموقف رئيسها وإعطاء صك براءة مجاني للنظام السعودي عبر وقوفه في وجه عون، علماً بأن «حفاوة الاستقبال» التي تحدث عنها الفريق المواكب للبطريرك تمثلت باستخفاف كبير بقيمة الضيف وإرسال السبهان وحيداً للترحيب به؟ الأهم في ذلك كله، أن المشكلة الكبرى غالباً ما تكون في المبدأ، وتحديداً في غياب أي خلية عمل في بكركي تتابع تفاصيل ما يجري، فتتكاثر الدعسات الناقصة والزيارات التي بلا نتائج. فتظهر الفضائح بالجملة، وليس آخرها عدم معرفة الفريق الإعلامي، الذي رافق البطريرك، بتحركات الراعي ولا بمكان إقامته ولا بأي تفصيل يخص لقاءاته بالحريري والملك وولي العهد. إذ لزم الصحافيون الفندق معظم الأوقات ولم تتح لهم رؤية الراعي سوى خلال اجتماعه بالرعايا اللبنانيين.
يعزو زائرو الصرح ما سبق الى حاجة الراعي للعب دور ما بعدما قلص انتخاب ميشال عون رئيساً دوره، وأخرجه من اللعبة السياسية بالكامل، حيث إن أحداً لم يعد يزور بكركي للوقوف على رأيها، كما حصل سابقاً عند مناقشة قانون الانتخابات. ولكن كان في وسع الراعي العودة الى الضوء وتحصين موقعه عبر الوقوف الى جانب الرئيس ودعم موقفه في ظل الأزمة التي نشأت بين لبنان والسعودية، إلا أن الخيارات الخاطئة ونصائح الأصدقاء الجدد الهشة كانت على رأس قائمة البطريرك، بحسب مصادر متابعة لحركة الصرح. فانتهى الأمر هذه المرة، بإعادة الراعي الى الظل وبخلاف كان يمكن تجنبه مع رئيس الجمهورية. وبرأي مصادر التيار الوطني الحر، فإن أزمة الراعي أعمق من أن تحلّ بزيارة قصر بعبدا، والإشادة بدور رئيس الجمهورية في حل أزمة لم يكن البطريرك يعترف أصلاً بوجودها عند إصراره على زيارة الرياض. فالرئيس لن ينسى من وقف إلى جانب محتجزي رئيس الحكومة، ومن قاوموا هذا العدوان على لبنان.