بين الكلام عن تسوية حكومية متجددة والضغط لإجراء تعديل حكومي، هناك حلقة مفقودة تتعلق بدور الرياض وحلفائها في لبنان. فهل يمكنُ رئيسَ الحكومة سعد الحريري أن يتخلى عن كليهما؟
حتى اللحظات الأخيرة من المفاوضات التي تشهدها العاصمة الفرنسية حول الوضع الحكومي، والأجواء الرسمية اللبنانية التي تؤكد عودة الرئيس سعد الحريري عن استقالته نهائياً، وكلام الأخير لمجلة «باري ماتش» الفرنسية بأنه عائد الى الحكومة، لا تزال أوساط سياسية تبدي حذرها من أن تكون المفاوضات قد وصلت حقاً الى خواتيمها، وأن الحكومة الحريرية باقية.
مرد التشكيك أن الأجواء التي كانت تصل من باريس كانت تتحدث عن مهلة 15 يوماً من وصول الحريري الى العاصمة الفرنسية آتياً من الرياض، ومنها الى مصر فلبنان، لإنهاء المفاوضات الإقليمية وجلاء موقف الحريري في شكل واضح وتحديد سقف ما يقبل به، والرياض، في شأن تدخل حزب الله في الدول العربية، على أن يذهب الى حكومة جديدة ببيان وزاري جديد وبمسار يختلف بتوجهاته عن الذي سلكته تسويته الرئاسية.
عقبات عدة حالت دون هذا السيناريو. فحزب الله لا يمكن أن يقبل بتغيير حكومي، لأنه لا يضمن إمكان تشكيل حكومة جديدة، إذا استقالت حكومة الحريري في الأجواء المتشنجة الحالية، واحتمال دخول عناصر إقليمية على الخط، ما يضاعف محاذير العبث بالاستقرار الداخلي، وهو آخر ما يحتاج إليه الحزب في وقت تتسارع فيه وتيرة الاستحقاقات في المنطقة وتأثيراتها عليه. وكذلك فإن الهجوم المضاد الذي خاضه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في وجه السعودية، وشاركت فيه فرنسا من موقع مختلف، صوّب اتجاه التفاهم الجديد نحو الداخل اللبناني، في إطار تصفية الحسابات الداخلية على وقع استقالة الحريري، مستفيداً من التعبئة التي حصلت في تيار المستقبل أيضاً في وجه الرياض.
من هنا، تبدلت وجهة الكلام عن تغيير حكومي الى تعديل حكومي، من دون أن يتضح بعد رضى السعودية عن المسار الذي تحاول فرنسا في الوقت الضائع كسب دور أساسي فيه. ففيما كانت الدبلوماسيتان الفرنسية والمصرية تتحركان، كانت السعودية تلتزم الصمت، فلا تبدر منها أي إشارة الى المنحى الذي تتخذه استقالة الحريري، ما دام ولي العهد الأمير محمد بن سلمان كان واضحاً في حديثه الى صحيفة «نيويورك تايمز» بتحديده ما يجب على الحريري أن يقبل به أو لا يقبل. تحت هذا السقف، يمكن الكلام أن المفاوضات الجارية خارجياً لم تصل بعد الى مرحلة التفاهم الكامل الذي يتم تداوله لبنانياً، وخصوصاً لجهة الكلام عن تعديل حكومي واتفاق على صيغة تسوية تتعلق بموقف لبنان من النأي بالنفس، على شرط ألا تكون هذه التسوية لفظية، بل تقنع الرياض أولاً وآخيراً، لأنها هي التي فتحت باب هذا الاجتهاد في 4 تشرين الثاني. وإذا كانت هذه التسوية المؤقتة بضمانة دولية ستكون بديلاً من الاتفاق الأولي الذي كانت فرنسا راعية له، في انتظار معرفة كلمة الرياض النهائية، فلا يمكن الكلام في المقابل عن أن بقاء الحريري يعني خروج حلفاء السعودية، بتغطية من رئيس الحكومة نفسه، إذ إن أحداً من المتعاطين بملف العلاقات اللبنانية السعودية لا يثق تماماً بأن الحريري قادر على أن يذهب بعيداً في خصومته الرياض الى هذا الحد، من خلال التصويب على الحليف المسيحي للسعودية في الحكومة، فيعمد الى إخراجها منها. وأي محاولة للمسّ بهذا الحليف، بعيداً عن المناكفات المحلية التي يقوم بها المقربون من الحريري، تتعدى خروج الحريري من بيت الطاعة السعودي، الى ضربه قواعد أساسية في البنية التي أرستها الرياض مع المكونات اللبنانية. وقيامه بخطوة من هذا النوع، سيكون مؤشراً أساسياً في فهم مستقبل علاقاته مع المسؤولين السعوديين.
من هنا، يأتي الكلام عن تعديل وزاري أساسياً وليس جانبياً، لأنه يصوّب على القوات لإخراجها، للتخلص من حليف للسعودية والانتهاء من السجالات التي حكمت عمل الحكومة بين القوات من جهة، والتيار الوطني والمستقبل من جهة ثانية، إضافة الى تأثيرات هذا الخروج عشية الانتخابات النيابية. ورغم أن منظري «تيار المستقبل» وضعوا أولويتهم السياسية استهداف النائب السابق فارس سعيد، إلا أنهم ركزوا هجومهم، كما التيار الوطني الحر، على القوات اللبنانية التي بدأت حملة مضادة على من يسعى إلى إخراجها، سواء عبر رئيس الحزب الدكتور سمير جعجع أو النائبة ستريدا جعجع، ما سمح لمعارضيها بانتقادها لأن «مكابرتها» اليوم كما تلويحها بالاستقالة سابقاً، وعدم وضوح صورة تحركها السياسي في الأشهر الأخيرة وتذرعها بمكافحة الفساد، ساهم في تأكيد أنها أضاعت البوصلة ولم ترسم استراتيجية واضحة في الأشهر الأخيرة.
لا توافق القوات على تشبيه ما يحصل من سعي الى إخراجها، بسيناريو ما بعد الطائف بحسب مصادرها الرسمية «لأن الظروف الدولية تختلف، حينها أعطي النظام السوري تفويضاً لإدارة لبنان، وهذا الأمر ليس قائماً اليوم بدليل كل القرارات الدولية 1559 و1701 والرعاية التي جرت لحفظ الاستقرار حين قدم الحريري استقالته. وكما أن سوريا غارقة اليوم في حروبها، وحزب الله لا يقدر أن يحل محل سوريا، فهو في عين العاصفة وليس القوات، ويستهدف بالعقوبات ويتهم بالإرهاب».
تصوّب القوات على حزب الله وتحيّد المستقبل والتيار الوطني ولا تتهمهما بأنهما يريدان إخراجها من الحكومة. تتهم مباشرة الحزب بأنه يريد إحراجها لإخراجها، محاولاً أن يعوض ما سيخسره إقليمياً بتعديل دوره في المنطقة، من خلال تحقيق أهداف داخلية كإخراج القوات من الحكومة. وفيما يجتمع رئيس الحكومة والوزير جبران باسيل في باريس للتداول وحدهما في مسار الحكومة، تعتبر القوات «أنها ليست مستبعدة عن أجواء اللقاءات وما يدور فيها». وتؤكد أنها حصلت على توضيحات رسمية من التيار الوطني والمستقبل بأنها ليست مستهدفة بالحملة الحالية للتعديل الوزاري. وإذا كانت لا تلغي المشكلات القائمة مع التيارين، إلا أنها تؤكد أن اتصالات ولقاءات جرت أخيراً أفضت الى توضيح الصورة وبقاء التركيبة الثلاثية الحالية التي ساهمت في إرساء التسوية الرئاسية، بما يؤسس لمرحلة جديدة.