واضح أن أعداء «القوات اللبنانية» أكثر مما يعتقد أفرادها أو جمهورها. لكن هذا ليس حال قيادتها التي تنتهي كل محاولاتها لتحسين الصورة بالعودة إلى النقطة الصفر، وهي أن الصفة الملازمة لسلوك «القوات» هي: الغدر!
لم تحظَ «القوات»، على ما يبدو، بفرصة عمادة صادقة، لأن فعل الخطيئة الأصلية يسكنها منذ ولادتها. والحال أن سمير جعجع، على وجه التحديد، لم تدفعه التجربة إلى مراجعة جدية لكيفية النظر إلى الآخرين وكيفية تحديد موقعه في اللعبة. حتى اللحظة، لا يزال جعجع الفلاح الذي يريد من الإقطاعي أن يعترف بحقه في الشراكة. ومتى فعل الأخير ذلك، لا يريد هو أن يثق بأنه لم يعد فلاحاً ولا يمثل الفلاحين، بل صار شريكاً للإقطاعي. ولكنه ليس شريكاً أصلياً. إذ لا يُدعى إلى الجلسات المغلقة والحفلات الخاصة. له، فقط، مقعده في الاحتفالات العامة التي لا تمنحه أكثر من صورة وبضع ابتسامات.
حتى الآن، يكون واهماً من يعتقد أن جعجع يريد إجراء هذه المراجعة. حالة الإنكار عنده باتت ملازمة لكل ما يقوم به. قبل ربع قرن، لم يقرأ جعجع الوقائع القائمة بتعقُّل. ظنّ أن إطاحة العماد ميشال عون جرت لمصلحته، معتقداً أن في إمكانه استثمارها. وقد توهم، كحال كثيرين في البلاد، أن من ينظم التسوية يحتاجه لاعباً أكيداً. لم ينتبه إلى أن الطاحونة التي خلقها الاتفاق السوري ــــ الأميركي ــــ السعودي حينها لا تحتمل المناورة. عندما قرر «التشاطر» على حافظ الأسد، فعل ذلك بسذاجة غير مسبوقة. وعندما قرر القائمون على التسوية متابعة عملهم من دونه، بادر إلى ما يعرفه بالصراخ حيث لا ينتبه المستمعون، فانتهى به الأمر جريحاً مسجوناً. ولما خرج من السجن، بعد انقلاب الأميركيين والسعوديين على الشريك السوري، اعتقد، مرة أخرى، أن قواعد اللعبة الجديدة لا تستقيم من دونه. لكنه لا يريد التدقيق في كل ما يجري، لأنه لا يبدو مهتماً بمعرفة أن ما يريده الأميركيون والسعوديون منه لا يتجاوز دور المشاغب الذي ينفع في لحظة اختلاق مشكلة. أما كيف سيكون مصيره في ما لو حصلت المواجهة، فهذا آخر ما تهتم له واشنطن والرياض، وحتى تل أبيب!
اليوم، لن يكون بمقدورنا الاستماع إلى مقاربة جديدة من «القوات» لما يحصل في بلادنا ومن حولنا. وسيخرج قادة الحزب الريفي وكوادره ليعيدوا على مسامعنا أنهم أصحاب الحقيقة، وأنهم عرضة لظلم جديد، وأنهم غير مسؤولين عمّا يصيبهم مع كل دورة سياسية. وفوق ذلك، سيقولون لنا إنهم مثل جبال لبنان، لا ينحنون ولا يُهزمون وسيواصلون معركتهم حتى تكون حقيقتهم هي السائدة. وبالتالي، لا فائدة من الانتظار، ولا بد من التوجه إلى الآخر بالكلام عن فئة من أهل بلدنا، تواجه صعوبة في الفهم والتعلم، ومن الواجب العمل على احتواء غضبها غير المبرر، وحملها، ولو من دون إرادتها، إلى المكان الأنسب لها... عملاً بالحكمة القائلة إن «هناك من يقاد إلى الجنة بسلاسل»!
ليس سعد الحريري آخر من تغدر به «القوات اللبنانية»، ولن يكون الأخير، طالما لم تعترف «القوات» بذنوبها قبل أن تكفّر عنها. لكن صدمة سعد الحريري أنه كان يثق فعلاً بـ«القوات» حليفاً سياسياً حقيقياً، وكان يعتقد أنه، بوصفه الزعيم المسلم، قد وجد ضالته في بناء علاقة تحالف صادقة مع شريك مسيحي، وهو الذي تعلم من والده ورفاقه أن الابتزاز كان على الدوام سمة علاقات آل الحريري مع المسيحيين في لبنان. علماً أن الابتزاز هو أيضاً صفة حلفاء الحريري من المسلمين. لكن آخر ما كان الحريري يريد سماعه، أن «القوات» تشارك ليس في نصب الكمين له، بل في عملية إطاحته، كرمى لمشروع سعودي ــــ أميركي سبق أن دمّر البلاد مرات عدة من دون نتيجة. الحريري، هنا، ليس طفلاً مجروحاً سيجد جعجع طريقة لمواساته كما يعتقد، لأن الحريري اكتشف، في محنته السعودية، أن «القوات» طرف أساسي في عملية الانقلاب الفاشلة عليه. وكانت ذروة الصدمة أن سعد الحريري سارع إلى الذهاب بعيداً عن «القوات» عندما كان يبحث عن طريقة لإخراجه من السجن السعودي. بينما وجد أن من يدعمه ويقف إلى جانبه ويعمل بإخلاص لإخراجه من أزمته، هم أبرز الخصوم من حزب الله إلى الرئيس ميشال عون وآخرين.
وإذا كان غضب الحريري على «القوات» لا يقلّ عن غضبه على حزب الكتائب وعلى قيادات محسوبة عليه، فإن المشكلة لا تعالج بانفعالات لا تخدم الفكرة الأساسية التي تقول إن مصلحة الحريري، اليوم، هي من مصلحة بقية اللبنانيين في إبقاء التسوية الرئاسية قائمة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ولذلك، ليس عليه أن يذهب بعيداً في التعبير عن غضبه من «القوات»، وليس من مصلحة أحد الذهاب إلى خيار عزلهم، لأن في ذلك خطأً أساسياً يعوق تعميق أي مصالحة وطنية قائمة الآن في البلاد.
والمشكلة ليست عند الحريري فقط، بل هي أيضاً عند قسم من التيار الوطني الحر، وربما عند رئيسه جبران باسيل على وجه الخصوص. ولن يكون عملاً حكيماً أن يحاول باسيل استغلال اللحظة للتشارك مع الحريري في خطوة عزل «القوات»، حتى ولو كانت خطوة يعتقد باسيل، وربما الحريري أيضاً، أنها ستلقى دعماً ولو غير مباشر من قبل حزب الله والرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط.
الفكرة هنا، أنه يجدر بالحريري دعوة «القوات» إلى جلسة مكاشفة، وأن يقول لهم كل ما يفكر فيه، وأن يصارحهم بأن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه سابقاً، وأن يدعوهم إلى الاتعاظ من كل التجارب، وهو الأمر نفسه المفترض بالرئيس عون القيام به، من باب النصح الذي يقوم به الأخ الأكبر في حالات مشابهة. وبعدها، يترك لـ«القوات» أن تختلي بنفسها وأن تقرر ما تريد. ويكون على عاتق قيادتها هذه المرة، إجابة بعض كوادرها وبعض أنصارها، من الذين يهمسون: لماذا لا يثق بنا الآخرون، لا لماذا يكرهوننا!