قبل أيام قليلة، قرر سعد الحريري ترؤس اجتماعات كتلة تيار «المُستقبل» النيابية. وقد قرأ كثيرون في قراره استهدافاً لرئيسها فؤاد السنيورة، وخصوصاً أن الأخير «مشتبَه في كونه من الدائرة السبهانية». قرار الحريري لا يقتصر على ترؤس الكتلة. فعارفو رئيس الحكومة يؤكدون أنه عاد من التجربة السعودية التي ألمّت به بعد الرابع من تشرين الثاني، حازماً على غير عادته، ومصمماً على الإمساك بجميع مفاصل تياره.
لن يمنح أحداً ذريعة التصرّف كشهيد سياسي. لكنه لن يسمح باستمرار الانفلات الذي كان سمة رئيسية للتيار منذ عام 2005. خارج التيار، مع حلفائه السابقين ــ خصومه الجدد، لن يتصرّف بثأرية. يقول أحد المقربين منه إن «أداءه سيكون انعكاساً لرغبته بالحكم. ومن يرد أن يكون شريكاً في حكم البلاد، لن يُقصي أحداً، بل سيسعى إلى تقريب الجميع منه، حتى أولئك الذين يملك أدلة على كونهم طعنوه، وكانوا جزءاً من محاولة التخلص منه».يشدد الحريريون على أن تجربة الاحتجاز السعودي، ومحاولة إبعاد ابن رفيق الحريري عن الحياة السياسية، أثّرت به، وبنظرته إلى دوره. صحيح أنه لن ينقلب على نفسه، ولن يقف على الضفة المقابلة لتلك التي كان ينتمي إليها ولا يزال، إلا أن ما جرى عليه أخيراً، جعله يثق بقدراته أكثر من ذي قبل، وأن يستند إلى مصادر القوة الموجودة في البلد، بما يتيح له توسيع هامشه خارجياً، حتى في العلاقة مع السعودية. فمهما قال الرجل، ومهما ذهب بعيداً في الدفاع ــ إعلامياً ــ عن سياسات الرياض، يعلم أن أحداث الشهر الماضي طوت صفحة السعودية التي يعرفها، تماماً كما طوت صفحة الحريري الذي تعرفه السعودية. اليوم، يقول الحريري، بثقة، «الأمر لي»
لم تكُن العلاقة جيدة بين الرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة قبل إعلان استقالة الأول. لكنها لم تصِل إلى السوء الذي هي عليه اليوم، حتى في عزّ اختلافهما حول نقاط أساسية واستراتيجية. منذ عودته إلى البلاد بعد استقالته القسرية، لم يُخف الحريري نواياه تجاه كل من شكّك بأنهم من «المتآمرين» عليه. هذه المرّة يتصرف بحزم لم يعهده به تياره، متخذاً مجموعة من القرارات بات واضحاً بأنها تسعى إلى تهميش شخصيات أساسية في البيت الأرزق أو تحجيمها.
يُسابق الحريري الوقت الذي يداهمه من كل الجهات. وساعته الذكية التي كانت محط اهتمام اللبنانيين منذ افتقادها على معصمه أثناء تلاوة بيان استقالته أصبحت مرجعه بين لقاء وآخر، أو خلال انتقاله من اجتماع إلى ثان بين غرف الطابق الأول في بيت الوسط الذي لم يعد كما عهده العاملون أو المقربون من التيار والبيت. فحرية التنقل بين الطابقين السفلي والأول قُيدت حتى على الذين كانوا يدّعون أنهم نُدماء للمقررين في هذا البيت ومنازله الكثيرة. أداء الحريري تغير كثيراً، لا بل انقلب رأساً على عقب. لم يعد يستمع إلى ما تتضمنه أجندته اليومية من مواعيد نظم ترتيبها البروتوكول في بيت الوسط. صار هو من ينظمها طالباً الاتصال بهذا وإرجاء استقبال ذاك. يعطي انطباعاً بأن أمامه الكثير لينجزه، بعدما فاته ما هو أكثر «أو بالأحرى ما انكشف من ثغرات خلال الأسبوعين اللذين قضاهما» في السعودية.
منذ أكثر من أسبوع، وخلال ترؤسه اجتماعاً لكتلته النيابية ومكتبه السياسي، قال الحريري: «سأترأس كل الاجتماعات»، و«سأبحث في كل شاردة وواردة، وسنناقش كل أمر هنا، في اجتماعاتنا، لنصل إلى قرار موحّد. ومن لديه رأي مخالف فليقله هنا، لا أمام الإعلام. ومن لا تعجبه هذه الصيغة بإمكانه المغادرة». ظهر هذا الموقف للبعض بأنه «نوع من النكاية» في البداية من دون اتضاح أسبابه، لكن سرعان ما فضحت تصرفات «الشيخ» خلفياته ليتبيّن بأن المقصود هو السنيورة.
مؤشرات عدة دفعت مستقبليين الى استخلاص هذه النتيجة، يسردها هؤلاء لإثبات صحّة ما يقولون. في الشكل «تعمّد الحريري منذ عودته تهميش رئيس الكتلة»، أولاً من «خلال تعامله مع الرئيس السنيورة الذي عادة ما يجلس إلى يمينه في الاجتماعات، وقد شعرت الغالبية بأنه أعطاه ظهره في آخر جلسة وتقصّد تجاهله». في تلك الجلسة، وبعد الانتهاء من صياغة مسودة البيان، سأل الحريري «أين نائبي؟» (النائب السابق باسم السبع)، فيما السنيورة يقف إلى جانبه. وبعد أن جرت العادة بأن يكتب السنيورة، بحسب تراتبية المواقع، مسودة البيان بعد اجتماع مماثل، طلب الحريري من السبع القيام بالمهمة.
قد ينظر من هم خارج التيار إلى هذه التفاصيل باعتبارها عابرة ولا يُبنى عليها. لكن المستقبليين لم يعتادوا عليها، فالرئيس الحريري غالباً ما كان يتعامل «بالحُسنى» حتى مع من يتصرفون بنديّة تجاهه، لكنه هذه المرّة يتبع أسلوباً مغايراً، ويتعمّد إيصال رسائله بشكل «مفضوح».
ينقل مستقبليون جوّاً من داخل الكتلة فحواه بأن «شكوكاً كثيرة تُحيط بالسنيورة تجعل الرئيس الحريري يتصرف معه وكأنه من الجناح السبهاني». صحيح أن رئيس كتلة المستقبل «لم يغلّط» كل فترة الأزمة، واختار التظلّل بسقف ما أرادته الدائرة الضيقة للحريري، وفي مقدمتها النائب بهية الحريري ونجلها نادر، «لكنه ظهر وكأنه يفعل ذلك مرغماً»، فزلّاته السابقة وضعت كل تصرفاته خلال أزمة الحريري في الرياض «موضع شك». بحسب أوساط «المستقبل» قد لا يكون موقف الرئيس الحريري مبنياً على أي سلوك أظهره «قائد مجموعة العشرين» (المعترضة على التسوية الرئاسية) خلال الأزمة، لكنه يُمكن أن يكون نتيجة «تجاوزات» راكمها الحريري، ووجد بأنه آن الأوان للرد عليها.
ليست المرة الأولى التي يظهر فيها المستقبليون منقسمين في كتلتهم. صحيح أن الرئيس الحريري يحظى بتعاطف غير مسبوق، جعل غالبية التيار تلتف حوله، لكن أيضاً للرئيس السنيورة «شعبية» لا يستهان بها، جعلت مؤيديه يعتبرون بأن «ما يتعرض له الرجل نوع من العقوبة ليس إلا»، إذا يبدو بأن الحريري «لم ينسَ بعد مجموعة العشرين التي لا تزال حتى الآن فاعلة». ناهيك عن أن «الرئيس السنيورة لا يخفي حقيقة موقفه المعارض للتسوية، وهو يجاهر به أمام الجميع، بمن فيهم الحريري». وقد قال في أكثر من جلسة بأنه «يعارض القطيعة مع المملكة العربية السعودية، ولا يستسيغ التقارب المطلق مع التيار الوطني الحرّ ومن خلفه حزب الله». وكشفت المصادر أن «السنيورة كان مستاء جداً من تصريح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من روما عن سلاح حزب الله»، معتبراً أنه «لا يُمكن حمله، ولا السكوت عنه»، وهو «مستاء أكثر لأن كثراً في التيار باتوا مسلّمين بخيار الحريري الالتصاق بعون، خصوصاً بعد أن شعروا بأن الرابط الذي يجمع الحريري به كبير جداً».
يفضّل السنيورة التصرف بشكل طبيعي مؤكداً أن «العلاقة مع الرئيس الحريري ممتازة». مع ذلك، قال أمام مستقبليين بأنه «لم يحسم بعد قرار ترشحه» للانتخابات المقبلة. ولمّح إلى «إمكانية نزوله على لوائح غير لائحة المستقبل، وإن كان الأمر مستبعداً، لكنه وارد، وينتظر موقف رئيس الحكومة والصيغة التي سوف يُبنى عليها موضوع النأي بالنفس».
قد لا يكون الامر مقصوراً على استبعاد السنيورة، فهناك الإشكال الذي وقع بين نادر الحريري والنائب فتفت في أحد اجتماعت الكتلة التي عقدت عندما كان الحريري محتجزاً في الرياض. شن فتفت هجموماً حاداً ضد التسوية الرئاسية وضد كل ما أفضت إليه من نتائج سياسية، مطالباً بتنظيم استشارات نيابية لتسمية رئيس للحكومة. فانبرى نادر للرد عليه. وخلال النقاش احتدمت الأمور ما دفع بفتفت إلى خبط يده على الطاولة ومغادرة القاعة، بعد توجيهه كلاماً حاداً لنادر. بعد ذلك، انتقل فتفت الى الضنية، وأخبر مقربين منه أنه ينتظر تدخلاً من الرئيس الحريري ليعاود نشاطه، وأنه حتى ذلك الحين «أخذ إجازة إعلامية».