لطالما اتخذ الحب شكل فلسطين. ولطالما بدت تلك البعيدة القريبة، الأسيرة الحرة، محط العيون ومسرى القلوب كلما مررنا بمحاذاة الحدود التي وضعها الاحتلال، اسلاكا شائكة، تفصل بين الروح ومسقطها.
ولطالما كانت رمزية القدس تتخطى البعد الديني، المسيحي الإسلامي، لتكون رمز العاصمة المسلوبة، التي أصبحت قبلة الأحرار بشوارعها المعتقة بماء الصبر، واحيائها التي تقاوم التهويد في مواجهة يومية، بين الأصيل والطارئ، بين ابن البلد والمستوطن.
منذ وعد بلفور، ودخول اول مستوطن إلى فلسطين، ومنذ أن تآمر بعض العرب وكافة دول الغرب تقريبا على زرع الكيان الصهيوني في أرضنا، أصبحت فلسطين وجهة البنادق الحرة، والمعيار العالي والمشرف للانسانية.
كل من ساوم على حريتها وعروبتها مدان بالخيانة، وكل من ارتضى خوض النقاش في أوهام السلام والحلول السلمية، اما عميل واما غبي قادم إلى العمالة. بالمقابل، كل من أيقن وآمن بحريتها المسلوبة، وبحقها المقدس بالدفاع عن نفسها، وبواجبنا الأخلاقي والإنساني والسياسي والبديهي ببذل كل المستطاع لتحريرها، هو اثبت بشكل أو بآخر وطنيته وانسانيته. لهذا، نحن نرى الأنظمة التي ساومت على أرض فلسطين ومارست، بالسر أو بالعلن، جريمة السلام مع العدو، تصطف اليوم في صفوفه وتحاول، بشكل أو بآخر دفعه باتجاه تصفية كل ما يمت إلى المقاومة بصلة. والمثال الأحدث على ذلك هو الطلب السعودي إلى الصهاينة بشن الحرب على حزب الله في لبنان، وعرضها تغطية نفقات هذه الحرب. لا يمكن القول إن هذه الأنظمة خذلت فلسطين. في الواقع، ومنذ البداية، فلسطين لم تراهن يوما عليهم حتى يخيب أملها بهم. هم فقط خذلوا أنفسهم، وناسهم، وسقطوا، ويسقطون في كل يوم أكثر في مستنقعات الخيانة التي لا طهر بعدها، ويصبحون، شيئا فشيئا محط لعنات التاريخ، التاريخ الذي لا يجامل، ولا يرتشي ولا يسامح، التاريخ نفسه الذي بدم الشهداء يُكتب، بعرق المشتبكين، بحبر من اختاروا فلسطين هوى وهوية.
بالأمس، وبعد طول تردد، فعلتها الولايات المتحدة الأمريكية، وليس الأحمق ترامب فقط، واعلنت القدس عاصمة "لإسرائيل" ، قاطعة بذلك الطريق على كل الموهومين بالحلول السلمية وبحل الدولتين وبالمفاوضات. وقد بدا هذا الإعلان إيجابيا من هذه الناحية، إذ كشف، لمن ما زال يتذرع بغشاوة "السلام" على عينيه أن تلك الطروحات ما كانت الا الاعيب واكاذيب صدقها بعض الراشدين، وكشفها حتى الاطفال في فلسطين. فارس عودة على سبيل المثال، بوقفته البطلة، بحجره المقدس فهم حقيقة الصراع بشكل أعمق بكثير من مثقفين وشعراء وإعلاميين وسياسيين لطالما نظّروا للحل السلمي ولسعي الغرب لإنهاء الصراع بشكل ينصف العرب والصهاينة!! ان كان هؤلاء يصدقون ما قيل لهم ويكررونه فتلك مصيبة، وان كانوا لا يصدقونه لكن يتقاضون اجورا لتكراره، فالمصيبة أعظم، وفي الحالتين، صغارنا قبل كبارنا يعلمون، وبالفطرة، أن الإنصاف الوحيد هو بعودة المستوطنين الصهاينة إلى بلادهم، أحياء أو في توابيت. والإنصاف الوحيد أن تتحرر فلسطين الحبيبة، وستتحرر، طالما أن هناك رجالاً، بحجم الصدق الساطع من صوت الأمين على القلوب السيد حسن نصر الله، يقولون إن فلسطين الحبيبة ستتحرر.
جميعنا نعلم أن قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب المحتلة إلى القدس المحتلة، بكل مضامينه السياسية، وبكل الرسائل التي حملها ويحملها، هو مجرد تفصيل لا يغير في واقع الأمور شيئًا، وان المقاومة لن تميز بين عنوانين مختلفين على نفس الأرض المحتلة. لكن الملفت والمهم في القرار، انه يكشف حجم التأزم الصهيوني وبحثه، مع الأمريكي، عما يحفظ ماء وجهه أمام مستوطنيه على الأقل، في ظل الخسائر والهزائم المتتالية التي منيت بها أدواته في سائر ساحات المعركة، في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وكل شبر يقاتل ولا يخرج ناسه من المعركة الا منتصرين.
من جهة أخرى، شكل هذا القرار صفعة على وجه كل من تناسى القضية الفلسطينية معتبرا أنها قضية منفصلة عن الحرب الدائرة في ساحات النار. هذه الحرب التي ابتغت تشتيت المقاومة بعنصريها العسكري والسياسي، وحاولت إعادة رسم الحدود بين البلاد، انقلبت على صانعيها فأزالت الحدود الوهمية تلك وربما جاء هذا القرار ليؤكد المؤكد ويعيد تصويب الوجهة، لمن ضل عنها، لتكون فلسطين، عاصمة الوطن العربي وعاصمتها القدس العربية.
لذلك، ولأنها فلسطين الحبيبة، كانت الدعوة إلى التظاهر يوم الاثنين، في الضاحية، بكل ما ترمز إليه الضاحية من انتصار على الصهيوني. هنا، سيتجمع الف الف قلب وجهة نبضه فلسطين، وسيهتف لها، ويجدد يقينه والوعد، وهو وعد الحر، انها ستتحرر، واننا قريبا، سنجتمع هناك، في ساحاتها، وقرب شواطئها، وفي ظلال زيتونها، وسننشد بقلب واحد "موطني..".
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع