ما قبل حفلة الجنون السعودية الأخيرة في لبنان، كان أفضل بكثير ممّا بعد ما بات يعرف بـ«أزمة الحريري»، لجهة قوّة التأثير السعودي في البلد المشرقي الصغير. أراد السعوديون أن يستعيدوا زمام المبادرة، فاختطفوا رئيس الحكومة سعد الحريري، رجلهم، وقعدوا يشاهدون خسارتهم جزءاً كبيراً من نفوذٍ استثمروا فيه مالاً وأدوات وجهداً لعقود طويلة. هكذا، وجدت السعودية نفسها من دون حلفاء، لا سياسيين ولا رجال دين ولا مؤسسات، إلّا حزب القوات اللبنانية والوزير السابق أشرف ريفي والنائب خالد الضاهر، وبعض ممثّلي العشائر العربية. وهؤلاء، يؤذون السعودية أكثر ممّا يفيدونها بأدوارهم السياسية المحدودة. حتى إن القوات أُحرجت من صلافة التصرّف السعودي مع الحريري، فانكفأت وتراجعت، لتترك الضاهر يعلن تضامنه مع السعودية بعد شهر من فشل المحاولة الانقلابية. هل جاءت خسارة لبنان لتكمّل خسارات السعودية الإقليمية، من سوريا إلى اليمن؟ أم أن الهزائم السعودية لن تقتصر على تفكّك الجماعات الإرهابية التي لطالما شكّلت المملكة بوصلتها الفكرية والمالية؟
يكاد حلفاء السعودية «الطبيعيون» في لبنان، قبل خصومها، يحارون وهم يغدقون بالأسئلة على عقولهم، عن الأسباب التي دفعت السعوديين إلى خسارة «الكثير» في محاولتهم استعادة «البعض»، في ما اقترفوه بحقّ الرئيس سعد الحريري.
ويعلّق أحد المهتمّين السعوديين بالشأن اللبناني، على نتيجة الانقلاب السعودي الفاشل بالقول، إنه «لو دفعت إيران كل مالها وقوتها ونفوذها لتربح ما ربحته بعد ما حصل مع الرئيس سعد الحريري، لما تمكّنت من ذلك».
هل هي رعونة النظام الحاكم الجديد في السعودية، وافتقاره إلى المستشارين العارفين بشؤون لبنان هما السبب خلف خسارة السعودية المدوية في أزمة الحريري الأخيرة؟ أم أنّها العوارض الجانبية لشعور فائض القوّة الذي يضفيه وجود أميرٍ شاب نهم على أعتاب سدّة العرش برؤية «2030»؟ أم أن محاولة الحفاظ على لبنان في الفلك السعودي تحوّلت فخّاً للمملكة، حتى أصيبت آخر تأثيراتها في المشرق بانتكاسة في لبنان، بعد ضمور دورها في العراق وسوريا؟
السؤال لا يقف عند حدود الماضي، بل يتعدّاه للمستقبل، عن أفق الدور السعودي في لبنان، وخطة السعودية المستقبلية لإعادة تموضعها بوجه إيران وحزب الله، وبأي الأدوات والعناوين... إن وجدت.
من المصرفي إلى رجل الأعمال
مع بداية الثمانينيات، شكّل الرئيس الراحل رفيق الحريري، بشخصه ودوره، تعبيراً عن ذروة الاهتمام السعودي بلبنان، وثمرةً لاستثمار طويل الأمد، يسبق حتى إقامة عبد العزيز آل سعود مملكته الموحّدة في الثلاثينيات.
فالحاج حسين العويني، كان النسخة الأولى للثري اللبناني الذي تتبنّاه السعودية وتوصله إلى رئاسة الحكومة، خلفاً لرئيس الحكومة رياض الصلح. أطلّ العويني على الساحة السياسية من باب المصارف ووصل إلى المجلس النيابي في عام 1947، ثمّ بقي رئيساً للحكومة عقداً من الزمن. ولعب الدبلوماسي في السفارة السعودية في بيروت الصحافي عبد المقصود محمد سعيد خوجة، دور السكرتير الخاص للعويني وأمين أسراره.
ثم بعد العويني، صار الرئيس صائب سلام، رئيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، حليفاً وثيقاً للسعودية في لبنان، وصارت المقاصد ممرّاً لصرف الدعم المالي السعودي في بيئة السّنة اللبنانيين. غير أن علاقة السعودية الدائمة بالشخصيات والمؤسسات الخيرية والدينية السّنية، لم تكن وحدها مسرح النفوذ السعودي، بل أسّس الملك عبد العزيز في وصيته لأولاده، لعلاقة ممتازة تجمع الأمراء السعوديين بالقيادات المارونية اللبنانية، على قاعدة العلاقة المتينة مع الرئيس الماروني للحكم المسيحي في لبنان، الذي كان دعمه وقتها إعلان حسن نيّة عربية بنظر السعوديين تجاه الغرب. ومنذ الخمسينيات، فتحت المملكة خطوط تواصل متوازية من خلال الأمراء مع مختلف قوى اليمين اللبناني، وكذلك مع بكركي، وصولاً إلى رموز الحركة الوطنية اللبنانية، بالتوازي مع المؤسسات السّنية ودار الفتوى وجمعيات دينية أخرى. وليس خافياً، أن الأمير سلطان بن عبد العزيز كان المعنيّ بالعلاقة مع رئيس حزب الكتائب اللبنانية الراحل بيار الجميل، وكذلك كان الأمير سلمان بن عبد العزيز صلة الوصل السعودية مع الرئيس الراحل سليمان فرنجية. ولم يكن الرئيس الراحل كميل شمعون بعيداً عن هذا الفلك، إذ ارتبط بعلاقات وثيقة مع الأميرين سلمان وفهد بن عبد العزيز. وكان الأمير عبد الله بن عبد العزيز قناة الربط السعودية مع مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي الراحل كمال جنبلاط، ومع الإمام المغيّب موسى الصدر. ويروي المصدر السعودي حادثة ذات دلالات مهمّة عن علاقة السعودية بالجميّل. فحين أقدم الصحافي السعودي عبد الله مناع، على مهاجمة الجميّل على صفحات جريدة عكاظ لانعزاليته، سمع منّاع توبيخاً قاسياً من الأمير سلطان بن عبد العزيز، بسبب مسّه بأحد حلفاء السعودية الموثوقين.
الحقبة السعودية
غير أن النفوذ السعودي، الذي ارتبط دائماً بالمال الدافق والهدايا السخيّة، لم يكن يترجم ارتباطاً «سنيّاً» كاملاً بالسعودية، في ظلّ ارتباط السنّة المشرقيين أوّلاً بمصر منذ ثورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وحفاظ الأزهر على مكانته كمرجعية دينية ــ تاريخية للسّنة في الهلال الخصيب قبل الغزوة الوهابية الفكرية الحديثة والتنافس بين الوهابية وأتباع سيد قطب على السّنة. وارتبط النفوذ السعودي تالياً بالسياسة الأميركية في المنطقة ولبنان، وترجم تجاذباً دائماً بين السعودية وعبد الناصر على الساحة اللبنانية.
غير أن وفاة عبد الناصر ومرحلة ما بعد حرب تشرين 1973، حملت دوراً سعودياً جديداً في الإقليم، ما زال مستمرّاً حتى الآن، مع بروز ملامح ضموره المتسارع في المرحلة الأخيرة. ومع نهاية السبعينيات، انطلق ما يعرف بـ«الحقبة السعودية»، التي تزامنت مع عزلة عربية لمصر بسبب اتفاقية كامب دافيد، واعتماد الأميركيين أكثر على الدور السعودي في شرق العالم الإسلامي، لمواجهة «الخطر السوفييتي»، الذي أفرز في أفغانستان دعماً أميركياً وسعوديّاً لتنظيم القاعدة في مواجهة القوات الروسية.
وبرز الحريري في لبنان بداية الثمانينيات، كرمزٍ للدور السعودي الجديد في المنطقة. وللمفارقة، إن بداية الثمانينيات كانت بداية عهد جديد للنفوذ الإيراني. استثمرت السعودية برجل أعمال تحوّل لاحقاً إلى رئيس حكومة، واستثمرت إيران بمنظّمة عسكرية ألحقت هزيمة بإسرائيل، وباتت لاحقاً قوّة عسكرية يتخطّى دورها حدود لبنان. ولم يبق الدور السعودي في لبنان نفوذاً فحسب، بل تحوّل مع اتفاق الطائف إلى معادلة دولية إقليمية جديدة يتشارك فيها مع الدور السوري إدارة الملفّ اللبناني. ويقول المصدر السعودي إن الحريري كان مرّةً وزير خارجية السعودية، ومرّة وزير خارجية الرئيس الراحل حافظ الأسد. لكنّه بشخصيته وذكائه، والعلاقة الأميركية السعودية الوثيقة، بات الرابط الوحيد للبنان مع السعودية، ولم يعد حتى مهمّاً عند السعوديين العلاقة مع الموارنة، التي اختصرها الحريري عبره، في مرحلة توسّع فيها دور رئيس الحكومة السّني، مقابل تقلّص صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي.
ولا شكّ في أن وفاة الأسد الأب وتولّي الرئيس بشار الأسد سدّة الحكم، أحدثا تحوّلاً في العلاقة السعودية ــ السورية، انعكس على لبنان انعكاساً مباشراً، في الوقت الذي حطّت فيه قوات الاحتلال الأميركي في العراق، برضى وترحيب سعودي. «فهم السعوديون اغتيال الحريري كاغتيال أحد أفراد الأسرة الحاكمة وغدراً مباشراً من الأسد، وإعلاناً عن انفلاش للنفوذ الإيراني في لبنان، قد يصل لاحقاً إلى الخليج».
بهذه الكلمات، يختصر المصدر السعودي لحظة اغتيال الحريري من الوجهة السعودية. وعلى هذا الأساس، يقول، إن السعوديين اعتبروا يوم 14 شباط 2005 لحظة إعلان الحرب على النفوذ السعودي.
الحريري الابن
«لو حفر الحريري كل شهرٍ بئراً في عكّار أو العرقوب أو البقاع الغربي بأقل من مليون دولار من الملايين التي قبضها بين 2005 و2008 من السعودية، لما هزمه شيء في لبنان»، ينقل أحد السياسيين البيروتيين كلام أحد المسؤولين السابقين في السفارة السعودية في بيروت. اختصار لواقع «مرير» يلخّصه السعوديون لمرحلة الحريري الابن.
غير أن هؤلاء لا يحمّلون الحريري وحده مسؤولية ضمور نفوذ المملكة في لبنان. أوّلاً، منذ الحريري الأب، تخلّى السعوديون عن التعاطي المباشر مع اللبنانيين، فكان السفراء السعوديون في بيروت لزوم ما لا يلزم (عدا السفيرين علي الشاعر وعبد العزيز خوجة طبعاً). وبالتالي، تخلّوا عن دعم المؤسسات الخيرية والدينية وعن الشخصيات المقرّبة، مثل النائب تمام سلام مثلاً، وأوكلوا مهمة دعمها إلى الحريري الأب. ثمّ لاحقاً، ترك الحريري الابن ليخوض غمار التجربة، بينما اشتد عود خصومه وردّوا على محاولات السعوديين للتحكّم بالدولة اللبنانية بحصار السرايا ثم بـ 7 أيار، قبل أن يُسحب من بيروت بعد إقالة حكومته في 2011، وتولّي الرئيس نجيب ميقاتي رئاسة الحكومة. ويقول أكثر من مصدر متابع للشأن السعودي، إن السعوديين انشغلوا عن لبنان بسوريا ومواجهة إيران فيها، وكذلك في مصر التي كانت ستشكّل كابوساً لهم لو استمر حكم الإخوان المسلمين فيها، فسهوا عن لبنان. ولاحقاً غرقوا في البحرين واليمن. ثمّ ارتكبوا خطأً حين قبلوا بميقاتي على مضض رئيساً للحكومة، ولم يحسنوا ترجمة تقدّمهم في سوريا في ذلك الحين. وحين استقال ميقاتي، كان القطار قد فات السّعودية، وتحوّلت الانتصارات السورية إلى هزائم لحلفاء السعودية، قبل أن تحين مرحلة التسوية الرئاسية بين الحريري والرئيس ميشال عون، عندما لم يكن لدى السعوديين خيارات أخرى لعودة الحريري إلى السرايا. وهذا الغياب السعودي يحمّله أكثر من مصدر معنيّ، مسؤولية «تردي حال السّنة في لبنان»، بالإضافة إلى الأزمة المالية التي وقع فيها الحريري. ويقول هؤلاء، إن أزمة الحريري مركّبة: أوّلها أن حسابات سعودي أوجيه بعضها رسمي، بينما الجزء الأكبر منها غير رسمي، وثانيها أن شقيق الحريري، بهاء، لم يقف إلى جانبه، بل أصرّ على سحب السيولة منه حين أصرّ على بيع حصّته من الشركة، قبل أن يعود ليسوّق نفسه خلفاً لشقيقه بعد تولّي الملك سلمان سدّة العرش.
ما هي خيارات «سنّة» لبنان؟
لم يكن ليتخيّل أحد أن تقوم قوى الأمن الداخلي، بنشر تعزيزات في محيط السفارة السعودية في بيروت، خوفاً من تظاهرات قد يقوم بها جمهور تيار المستقبل ضد السّفارة على خلفية الأزمة السعودية، وهو ما لم يقم به جمهور حزب الله وقوى 8 آذار في عزّ الاشتباك الداخلي اللبناني وتصعيد حزب الله ضد السعودية. فالمملكة التي قرّرت فجأة العودة بشكل صادم إلى لبنان، لم تجد غير اعتقال الحريري ودفعه إلى الاستقالة، لإعلان جولة جديدة من الاشتباك مع إيران. هكذا وجدت السعودية نفسها من دون حلفاء، سوى حزب القوات اللبنانية وبعض المنتفعين هنا وهناك في الداخل اللبناني. فالزعامات السّنية التي اختصرتها السعودية بآل الحريري طوال سنوات، لم تجد نفسها مضطّرة إلى الدفاع عن الموقف السعودي، فيما اندفع الغربيون لاحتواء الموقف، ونقل الحريري من حضن الوسيط الإقليمي السعودي، إلى الحضن الغربي مباشرةً. وكأن البريطانيين والفرنسيين وجدوا ضمور النفوذ السعودي مدخلاً للعودة إلى الساحة اللبنانية من بوابة احتضان رئيس الحكومة المكسور، من رعاته الأصليين.
ووصل إلى مسامع اللبنانيين أن السعوديين، في المراجعة السريعة للأزمة الأخيرة، حمّلوا وزير الدولة لشؤون الخليج ثامر السبهان جزءاً من الفشل الذريع الذي خلصت إليه خطوات احتجاز الحريري ودفعه إلى تقديم استقالته. وبحسب أكثر من مصدر لبناني وسعودي، فإن المستشار في الديوان الملكي نزار العَلَوْلَا، بات مكلّفاً إدارة الملفّ اللبناني. وهذا الدور للمستشار الجديد لا يعبّر عن خطّة سعودية جديدة للبنان، بل هو بمثابة مسؤولية تصريف أعمال إلى حين وضع السعوديين استراتيجية جديدة للبنان، علّها تنفع في إعادة ما خسرته المملكة من نفوذ، وما تخسره رئاسة الحكومة بدورها من ثقلٍ في النظام اللبناني، وتوقف التآكل الذي يصيب اتفاق الطائف.
هل يملك سنّة لبنان بديلاً؟ يقول مصدر بارز في تيار المستقبل، إن «سنّة لبنان لا يملكون خيارات كثيرة في غياب التأثير السعودي، بانتظار نفوذٍ مصري قد لا يأتي، لا يستطيع السّنة الغرق في أحضان الغرب، فعندها سيتحوّلون ورقة للمساومة بين الغرب وإيران في لبنان».