هوس وجنون تنتهجه بعض القنوات العربية في تغطيتها ومتابعتها للشأن الإيراني هذه الأيام وهم يصورون التظاهرات التي انطلقت من بعض المدن الإيرانية على خلفيات مطلبية واقتصادية بأنها انتفاضة وربيع إيراني. وقد وصل الحماس ببعض المذيعين حد ادعاء سقوط المقرات الحكومية والمخافر بأيدي المنتفضين في أكثر من مدينة، وأن الحرس الثوري يحاصر الطلبة داخل الجامعات! ولولا أنني أقيم في ايران هذه الأيام للدراسة، لكنت أخذت بهذه البروباغندا الموجهة، والدعاية المهووسة، فلا وجود لقوات غير اعتيادية في شوارع العاصمة أو غيرها، ولا صحة لتصدي الجيش والحرس لهذه المظاهرات، أو استخدام القوى الأمنية للعنف، ومن المضحك المبكي صراخ أحد المذيعين يدعو الإيرانيين (وهم الفرس في المحصلة ) للانتفاض والثورة، للتخلص من النظام الفارسي المجوسي!!
ولعل هذا الإعلام الذي دمر البلاد العربية بدعوى الربيع العربي والديمقراطية، وهو الممول من أنظمة مستبدة حد الثمالة يظن أن بإمكانه أن يقنع الإيراني بتدمير بلاده، وتفكيك مصانعها، ومفاعلاتها النووية السلمية، وتخريب زراعتها، وهو البلد المكتفي صناعيا منذ أن قضت ثورة الإمام الخميني على الارتهان للقوى الكبرى، وكل الإيرانيين هنا من كافة التيارات يشددون دائما على انتمائهم لوطنهم واستقلاله، وعندما يكون الخطر خارجيا، فهم يد واحدة ضد العابثين.
الإعلام التابع للنظام السعودي الوهابي الذي يرى أن سلطة ولي الأمر الملك، المستحل لكل الحرمات، والمعين بالرضا الأمريكي الصهيوني هي بعد الله مباشرة، هذا الإعلام تستهويه حشود مئات الإيرانيين المعارضين، لكن لا تهزه إصابة أكثر من مليون يمني بالكوليرا، ولا قتل آلاف الأطفال والنساء والشيوخ من أبناء الشعب العربي اليمني بآلة الإجرام السعودية، ولعل أفضل خدمة يقدمها آل سعود للمعارضة الإيرانية بأطيافها هو عدم التحدث مطلقا بالشأن الإيراني، فكل الإيرانيين الذين التقيتهم موالاة ومعارضة يكنون البغض للعائلة السعودية الحاكمة، ومن هؤلاء الايرانيين أهل السنة المنتمون بأغلبيتهم للصوفية، وللمذاهب الأربعة والأشاعرة المكفرين من المؤسسة الدينية السعودية وابن تيمية، وحتى من أبناء الطائفة الزرادشتية التي ينوي بعض أفرادها رفع دعاوى على الشيوخ السلفيين الذين ما فتئوا يستخدمون لفظ المجوسية كنبز وشتيمة ضد الشعب الإيراني، مع أنها إحدى الديانات العالمية.
مع ذلك، فقد نزلت الجموع الغفيرة المؤيدة للنظام في كل المدن الإيرانية تزامنا مع ذكرى يوم البصيرة، وحتى هؤلاء كانوا يؤكدون أن الحقوق المطلبية مشروعة شرط أن لا تسيس بالطريقة التي تخدم الأعداء، أو أن يستغل الحدث من أطراف تتبع أنظمة قمعية تزايد على دولة رائدة في الحريات، والفنون والعلوم،. والمراقب للحالة السياسية والحراك والتجاذب بين القوى المختلفة من إصلاحيين ومحافظين يتفهم كون ما يحصل لا يشكل أي خطورة على مخلوطة النظام السياسي الإيراني الذي يجمع بين التراتبية الدينية، وإشرافها المعنوي والروحي، وبين دينامكية السلطة التنفيذية المنتخبة. ومن الظلم مقارنة النظام الإسلامي في طهران، وعلى رأسه علماء مطلعون على الفلسفات القديمة والحديثة مع أنظمة مستبدة متأسلمة، ولا يوجد في العالم مجتمع متجانس 100% والاختلاف طبيعي في بلد كبير كإيران.
في ذروة هذه الأحداث صادق مجلس صيانة الدستور أمس على قانون أقره مجلس الشورى الإسلامي يلزم الحكومة الإيرانية الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لفلسطين، وهو ما يفسر كل هذا الحقد على السياسة الإيرانية، وتحريك مئات المعارضين الإيرانيين في الخارج استخباريا باستخدام حسابات مشبوهة على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة للتغرير بالشباب الإيراني، وهو المدعو أن يعي أن إيران مع العقوبات والأوضاع الاقتصادية الصعبة أفضل حالا من معظم الدول المحيطة، والجهود الإيرانية والنفقات الموجهة ضد الصهاينة والتكفيريين خدمة لكل الأمة الإيرانية التي يتربص بها الأعداء لمجرد الاختلاف عقائديا وثقافيا، ومن المؤكد أن إيران المنتصرة سياستها في كل ساحات الصراع ستجني من ذلك مزيدا من الاقتدار والاستقرار السياسي والاقتصادي. وبعد سنوات طويلة شاهدنا كيف تم الانجاز في الملف النووي وانتصرت السياسة الإيرانية، وحقق المفاوض الإيراني الحاذق لبلاده مزيدا من المكاسب المالية والعلمية.
الدعاية الغربية والرجعية العربية ضد نظام ولاية الفقيه المجتهد العادل العارف بزمانه والتشويش عليها وتسخيفها في أعين الشباب الإيراني ليست إلا محاولة فاشلة يائسة لتحويل الشعب الإيراني إلى ولاية سفيه يبيع بلاده وخيراتها واستقلالها للأمريكيين والصهاينة، ووصفة لفوضى خلاقة يحلمون بها، فشلوا بحلقات مسلسلها السابقة، يوم كان عمر إيران الثورة شهورا حيث قتلوا معظم قياداتها ومنظريها، ثم بالحرب المفروضة التي أشعلها صدام مدعوما من معظم العالم، مرورا بكل المحاولات اليائسة، وصولا إلى عام 2009 وما أسموه بالثورة الخضراء.
كاتب فلسطيني
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع