في وقت لا يبدو الأفق مفتوحاً أمام حل أزمة المرسوم والثقة بين الرئاستين الاولى والثانية، بدأت تظهر الخشية من مفاعيل الخلاف على المؤسسات التي زُجّ بها على خط الخلاف بين الطرفين

كلما تأخر حل الخلاف حول مرسوم الاقدمية، زادت العثرات السياسية. فقد أضاف رأي هيئة التشريع في وزارة العدل حول المرسوم بنداً جديداً على الخلاف القائم بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري. لكن المشكلة ليست في بنود الخلاف، وهي أصلاً كثيرة، بل، وبحسب أوساط سياسية، في استخدام المؤسسات واللعب بها في إطار شدّ الحبال بين الطرفين.

فزجّ الجيش في معمعة سياسية وخلاف «جوهري»، ليس حول المرسوم فحسب بل حول التوقيع الثالث، يعني أن الجيش وضع في صلب المواجهة، ولو أن قيادته تقول إنها رفعت المشروع بناءً على مداولات عسكرية داخلية ولا شأن لها بالسياسة، وأن بري يقول أيضاً إنه ضنين بالمؤسسة العسكرية والخلاف ليس معها.
لكن في بلد ضيّق الأفق الى هذا الحد، لا يمكن تجاوز تأثيرات ما يحصل منذ أسابيع بين الرئاستين الاولى والثانية، وانعكاس ذلك على المؤسسة العسكرية التي لم يكن هناك داع لزجّها في صراع سياسي. فبمجرد الكلام العلني عن أقدميات لدورة دون أخرى، ولـ»أعمال باهرة» لضباط دون آخرين، واستياء الضباط المرشحين للأقدمية بسبب منعهم من الحصول عليها، في مقابل استياء ضباط الدورات السابقة واللاحقة من عدم مساواتهم برفاقهم، هذا يعني أن ضرراً ما وقع. وفيما يؤكد جميع الاطراف السياسيين حرصهم على إبعاد السياسة عن الجيش، إلا أن إصرار رئيس الجمهورية، من موقعه الرئاسي، على منح الأقدمية للضباط، يعني بحسب سياسيين أنه أعاد مظلته السياسية على الجيش، بما يتعدى دوره كقائد أعلى للقوات المسلحة.

بعد الجيش جاء دور هيئة التشريع، إذ وضع السجال أمس حول رأيها «الشبهة» عليها بمجرد أنها تابعة لوزارة العدل ولفريق رئيس الجمهورية الوزاري، فأصبحت بذلك واحدة من أدوات السجال بعدما اتهمها فريق بري النيابي والوزاري بإعطاء اجتهادات مسيّسة. وهذا الأمر يزيد من الضغوط على الهيئات التي توضع على المحك من خلال موقعها التابع لفريق سياسي من هذا الطرف أو ذاك، ويمكن استخدامها تبعاً لتوجهات الفريق التابعة له.
وإذا كانت الايام القليلة الماضية فتحت هذا الباب من الاجتهادات ومن استخدام الطرفين المعنيين كل الادوات المتاحة لهما قانونياً ودستورياً وسياسياً، حتى من خلال الكلام عن الطائف ومحاضره، مع كل الآثار السلبية التي نتجت حتى الآن، بما في ذلك السجال حول قانون الانتخاب والإصلاحات فيه، فهل يمكن التكهن بآثار الخلاف إذا استمر مستعراً من الآن حتى يحين موعد الانتخابات النيابية؟
فإذا كان خلاف الرئيسين قديماً ومتجذراً في صفوف مناصريهما، وسبق له أن اتخذ أشكالاً مختلفة حين كان عون نائباً، وترك آثاراً سلبية في أكثر من محطة، إلا أنه يمكن أن يأخذ أوجهاً أشد قساوة اليوم، مع وجود عون في قصر بعبدا، ومحاولته فرض إيقاعه على بري، لا سيما أن تصريحات بعض المقرّبين من عون، بشأن هذا الملف وسواه، زادت من نار الخلاف، ولم تبردها، وتركت انطباعات سلبية عن التعاطي «الفوقي» مع الرئاسة الثانية، رغم أن ما حصل حتى الآن لم يصب في خانة الرئاسة الاولى سياسياً.
فمن يراقب المشهد منذ بدايته، بات يشكّك في أن فريق رئيس الجمهورية أعدّ لمعركة المرسوم جيداً. فعدا عن موقف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي أيّد عون (علماً بأن البطريرك سبق أن اعترض على بعض ممارسات العهد)، لم يصدر عن حلفاء العهد على اختلاف توزّعهم الطائفي والحزبي أي مواقف مؤيدة للمرسوم. كل من أيّد المرسوم ينتمي الى حلقة التيار الوطني أو المرشحين للانتخابات معه. أما القوى السياسية الأخرى، فإما حيّدت نفسها، وعلى رأسها الرئيس سعد الحريري الذي غسل يديه منه بعدما لمس حدة موقف بري، وإما وقفت الى جانب بري صراحة، علماً بأن المعارضين للمرسوم ليسوا جميعهم من الفئات السياسية المعارضة لرئيس الجمهورية. فالسياسيون القانونيون لا يزالون يتحدثون عن أن النقطة العالقة، بصرف النظر عن أهمية توقيع وزير المال، تتعلق بتفنيد المادة 47 من قانون الدفاع التي حددت أنه يمكن «منح الضابط أقدمية للترقية..»، أي إنه لا يمكن إعطاء الاقدمية لدفعة كاملة من الضباط. وهذا ما ميّزته المادة 48 التي حددت شروط «ترشيح الضباط» للترقية.
والمفارقة أن المرسوم الذي صدر في عهد قيادة الجيش الحالية، بعدما كانت قد أعدته القيادة السابقة، ومنح الأقدمية لـ400 ضابط شاركوا في معارك الشمال ــ طرابلس، وعبرا وعرسال عام 2014، إنما أعطى أقدمية في مرسوم واحد، لكنه فصل الضباط مجموعات وحدد لكل مجموعة وضابط المهمة والاسباب التي كانت وراء إعطائه الأقدمية، بما يتناسب مع شروط قانون الدفاع. ورغم أن هذا المرسوم لم يحظَ بتوقيع وزير المال علي حسن خليل الذي لم يطّلع عليه أيضاً، إلا أنه لم يثر ردّ فعل ولم يعترض عليه، لأنه لم يرتّب أعباءً مالية، بل كان محصوراً بالأقدمية، عدا عن كون المبررات التي أعطيت للأعمال الباهرة في المعارك المذكورة كانت مقنعة وكافية لتخطّي الأزمة. لكن المرسوم الثاني، وكان البلد في غنى عمّا خلقه من سلبيات، قفز فوق كل ذلك، فطالت شظاياه المؤسسات والدستور والقانون والاستقرار السياسي.

المصدر: جريدة الأخبار - هيام القصيفي