في حالات الحرب وفي مناطق الصراع، يصبح الفراغ والشعور بانعدام الوزن التمثيلي الطريق الأسرع إلى الخيانة، مرورا بالتفاهة المزينة بالشعارات الرنانة المفرغة من كل مضامينها أو التي تأتي اصلا بلا مضمون كمثل "حرية التعبير" و"الثقافة لا علاقة لها بالسياسة"..
طال الكلام حول مخاطر التطبيع، وحول وهم الفصل بين السياسة والأخلاق، وبينها وبين الثقافة، ومن المستبعد حد الاستحالة أن يكون الواهمون بهذه التفاهات المسماة شعارات واهمين فعلا حد الصدق مع أنفسهم. على الأغلب هم يعلمون جيدا ماذا يفعلون، والا فعليهم مراجعة قدراتهم العقلية والواعية ان كانوا فعلا يصدقون ما يقولون.. والمثال الاجدد هنا هو المتهم بالعمالة لصالح العدو المسرحي الوجه الثقافي المدعو "زياد عيتاني" .. لقد شكل هذا الشاب دون أن يدري صفعة حقيقية لكثيرين ممن كانوا يعتقدون أن التطبيع الثقافي هو مجرد مصطلح استحدثه "المتخلفون" عن الركب الثقافي العالمي، كالذين اتحفونا سنين بمقولة إن الفن هو لغة تسمو فوق الصراعات، متجاهلين، مع سبق الإصرار والترصد، حقيقة أن الصراع هو بالدرجة الأولى مسألة قناعات أخلاقية وإنسانية وجب أن يكون الفن مرآة لها، وانعكاسا لمسارها.. وبالتالي كل حالة فنية تنفصل عن احد طرفي الصراع هي حكما ترتبط بالطرف الآخر، سواء علم أصحابها ذلك أو لم يعلموا.. وبالتالي، كل حديث يتضمن مديحا لإبداعات ستيڤن (مدري شو) الاخراجية متجاهلا حقيقة أن الرجل يمثل، وبكل وضوح وصراحة، الطرف المعادي لنا المتمثل بالكيان الصهيوني، ويجاهر بدعمه، هو إما غبي يتخفى خلف اصبع نحيل من الأوهام أو متعامل، ولو ذهنيا.. وفي الحالين، هو مطبّع، سواء اعجبه التوصيف أو ازعجه.
إذن، ما إن بدأ الحديث عن منع عرض فيلم المخرج المتصهين في بيروت، حتى هبت متلازمة "الحرية الثقافية" في أجساد المطبعين.. وانطلقوا يدافعون عن حرية التطبيع تحت مسميات مختلفة.. وربما لولا الخوف من الملاحقة القانونية لانتفضوا يطالبون بحرية دعم الكيان الصهيوني ولا سيما أن ثمة عبارات جاهزة وتحت الطلب مثل "النأي بالنفس" وتحييد لبنان عن الصراع..
هنا النقاش يصبح نقاشا أخلاقيا وانسانيا قبل أن يكون سياسيا.. والذي يراه مجرد اختلاف في وجهات النظر، وجب أن يعيد حساباته وتصوره عن نفسه بالدرجة الأولى. وحين نقول إنسانية وأخلاقا، يجب أن تكون الصورة بسيطة ومعبرة ومليئة بالعاطفة.. الصورة هنا هي أطفال تموز 2006، (وحددنا الأطفال لأن مدعي الإنسانية والثقافة قلقون دوما على أطفال المناطق التي يسيطر عليها الإرهاب في سوريا.. ليس من الإرهابيين طبعا، إنما من كل رصاصة تطاولهم!) نعود.. أطفال تموز 2006.. الذين استشهدوا تحت مطر الصواريخ الذكية التي كانت تطلقها الطائرات الحربية التي يقودها صهاينة، صهاينة قام المخرج السيئ الذكر بدعمهم بمبلغ مليون دولار بعد حرب تموز .. هؤلاء الأطفال، يا محبي الطفولة والغيارى على إنسانية الفن وعلوه فوق الصراعات، أليسوا جزءا من المشهد.. أم هم الجزء الذي شئتم حذفه من فيلم انسانيتكم الجوفاء؟ الا يحق لنا، نحن البلد الموجوع حد النصر، منع عرض فيلم أخرجه مساهم في قتل أطفالنا؟ وهل يحق لتشوهكم الثقافي وانعدام وطنيتكم، تحت أي مسمى، تخطي كل الحدود القانونية والإنسانية والأخلاقية كي تشاهدوا الفيلم وتسوقوا لعرضه بحجة أنه ليس اول فيلم لذاك المخرج يتم عرضه في بيروت.. وأنه ليس الوحيد من بين الأسماء العالمية المتداولة بين الناس والمشهورة في مختلف المجالات (الرياضة، الموسيقى، الصحافة..) والتي تقوم بدعم الكيان الصهيوني بشكل أو بآخر.. كل هذه الحجج تعزز أهمية أن يكون هذا الفيلم ضربة في وجه التطبيع الثقافي، وأهمية منعه تأتي في سياق بتر كل محاولات الصهاينة للتسلل الى يومياتنا ولو عبر فيلم قد يكون جيدا على المستوى التقني..
التطبيع، في المصطلح وفي المفهوم وفي الممارسة، لن يصبح أمرا واقعا، بكل أشكاله مهما كانت طبيعة ومناصب من يشيرون إليه وكأنه تفصيل لا يغير في واقع عداوتنا للصهاينة شيئا.. هو درجة من درجات العمالة، وهو الخيانة نفسها حتى وإن كانت ملونة بعبارات كالثقافة حينا، وكالنأي بالنفس أحيانا..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع