إذا لم تكن النفايات التي انتشرت مع العاصفة على الشاطئ (ولا سيما في منطقة الذوق) مصدرها المطامر الشاطئية، فهذا لا يعني أن هذه المطامر ــ المكبّات سليمة. وإذا كان مصدر النفايات الأخيرة من نهر الكلب ومكبات قراه ومصانعه، فهذا لا يعني أن هذه حالة نهر الكلب وحده. فمشكلة النفايات التي ظهرت بعض فصولها عام 2015 عندما بقيت في الشارع، أو أمس عندما انتشرت على الشاطئ، أكبر بكثير مما هو ظاهر
قد تكون مشكلة النفايات الأخيرة، التي ظهرت على الشاطئ، نتيجة عدم دخول بعض القرى والمناطق في الخطة الطارئة أو ناجمة عن فشل بلديات في الدخول في المناقصات أو في إخفاء المشكلة، على اعتبار أن معيار «النجاح»، هو في مدى النجاح في إخفاء المشكلة. وقد تكون المشكلة ناجمة عن أوهام بلديات باللامركزية وإمكانية الخروج من الخطط المركزية، ومن ثم تعثرها وفشلها ورمي نفاياتها في الأودية والأنهار.
هذا إذا كانت ضمن جغرافية الخطط الطارئة في بيروت وجبل لبنان. أما في باقي المناطق، فالأودية والأنهر هي القاعدة للنفايات. فالنجاح والفشل في قضية النفايات في لبنان هو كالفرق بين من نجح في إخفاء المشكلة ومن فشل... لأنها ظهرت الى العلن. أما المشكلة الحقيقية فهي في كيفية إدارة النفايات (على أنواعها) التي لم تعالج بعد كما يجب في لبنان، لا قبل الأزمة (عام 2015) ولا بعدها. وإذ يعترف الجميع بأن خطة الطوارئ الأخيرة، كما هو واضح من عنوانها، لم تكن الحل، بقي المأخذ الرئيسي أن لخطط الطوارئ قواعد ومتطلبات لم يتم احترامها! منها ما يتعلق بطبيعة اختيار الأماكن للمعالجة، ومنها ما يتعلق بطريقة وضع دفاتر الشروط وكيفية تأهيل الشركات التي لم تحترم. كما لم يتم إنشاء معامل للفرز والتخمير تخفف من كمية ونوعية ما يذهب الى المطامر. بالإضافة إلى عدم الالتزام بإنشاء معامل للفرز أو تطبيق الالتزام بتوسيع معامل التسبيخ (كما في الكورال)، وقد نقلت النفايات كما هي الى المكبات ــ المطامر التي فقدت قدرتها الاستيعابية بسرعة، وتم اتخاذ قرار في مجلس الوزراء بتوسيعها من دون أي محاسبة! بالإضافة الى عدم تطعيم الخطط الطارئة بإجراءات استراتيجية كان يمكن البدء بها كالتخفيف والفرز من المصدر، والإسراع في إنتاج استراتيجية شاملة وكاملة بدل خطط الطوارئ وسياسات ورؤى وخيارات وقرارات غير استراتيجية كاعتماد المحارق.
المشكلة الأخيرة
ترجح المصادر البيئية أن تكون مصادر النفايات التي ظهرت بشكل رئيسي على شاطئ الذوق، هي من نهر الكلب، وأن معظم النفايات التي تدفقت الى نهر الكلب مع السيول، بعد الأمطار الأخيرة وذوبان الثلوج هي من مكب في بيت شباب، أو بلدات أخرى لم تدخل في الخطة الطارئة.
هناك بلديات أخرى حاولت أن تعتمد على معامل من دون أن تكون من ضمن خطة متكاملة، فيها مطمر لما يبقى بعد أفضل المعالجات في الفرز. فتذهب في العلن أو في السر الى رمي المتبقيات في مكبّات هنا وهناك، لتعود وتظهر في شكل أو آخر في أول مناسبة أو كارثة.
وكان يمكن أن نرى المشهد نفسه لو انهار مكبّ طرابلس أيضاً، بسبب قوة الأمواج، والتأخر في معالجة هذا المكبّ من ضمن خطة شاملة، كما قد يكون بعض منها من منطقة الردم أو قربها.
صحيح أن النفايات ظهرت على الشاطئ، إلا أن ما لم يظهر عصارة النفايات السامة جداً، تلك المجمّعة في ما يسمى مطامر على الشاطئ أو في أماكن أخرى، والتي لا تعالج في أي مكان، ويرجح أن تكون الشركات الملتزمة هي التي ترميها في البحر أيضاً، مع العلم بأنها أكثر خطورة من النفايات الصلبة، والتي لن تقوى عليها جرافات الهيئة العليا للإغاثة!
كما لم تظهر بعد في أماكن ما يسمى المعالجة على الشاطئ، دواخين وأنابيب تصريف غاز الميتان من هذه المطامر (التي يفترض أن يتم إحراقها) التي يطمر فيها كل شيء، ولا سيما المواد العضوية، من دون فرز، والتي يفترض أن تكون قد بدأت بالتفاعل بشكل كبير وإنتاج غاز الميتان الخطر، الأكثر تسبباً بتغير المناخ من ثاني أوكسيد الكربون بـ 34 مرة. هذه المشكلة التي لم تظهر على الشاطئ مثل الردميات أو المتفلتات من عمليات الردم، بالإضافة الى أن عمليات الردم بحد ذاتها وتوسيعها، حسب قرار مجلس الوزراء الأخير، لا تتسبب بتلويث البحر فقط، بل بتغيّرات غير متوقعة باتجاهات التيارات البحرية، وباتجاهات الأمواج، التي ستعود، عاجلاً أو آجلاً وبقوة قد تكبر أكثر وأكثر للانقضاض على أماكن مختلفة من الشاطئ، ولا سيما على كل التعديات على الشاطئ.
ما خفي أعظم
لتفسير ظاهرة طوفان النفايات أمس، يمكن أن نطبق المثل الذي يقول: «ما خفي كان أعظم». والمخفي في لبنان هو، بالدرجة الأولى، النفايات السائلة المنزلية (مياه الصرف) التي لا يتحدث عنها أحد. وهي التي تعتبر الأكبر حجماً والأخطر تاثيراً في تسربها الى التربة والمياه الجوفية والأنهار والبحر. فإذا كان معدل إنتاج الفرد من النفايات الصلبة المنزلية في لبنان ما يقارب الكيلوغرام يومياً، فإن معدل إنتاجه من النفايات السائلة (المياه المبتذلة) ما بين 150 و200 ليتر يومياً، تذهب أيضاً في الأودية والأنهار والبحر، وتعتبر المسبب الأكبر لتلويث المياه العذبة ومياه البحر. ليس الهدف من الإشارة الى هذه المشكلة التخفيف من مشكلة النفايات الصلبة التي تظهر بين الحين والآخر على السطح (الشارع أو الشاطئ أو الأودية والأنهار والبحر)، إنما للدلالة على مدى تسليم أمرنا وإدارة شؤوننا الحياتية لمسؤولين غير جديرين، ولتبيان مسؤولية كل فرد، لم تنجح أي استراتيجية ولا أي خطة حكومية، حتى الآن، في إشراكه في تحمل المسؤولية والمشاركة في الحل بشكل موضوعي وعلمي وعادل، بعيداً عن التسييس الغبي والاستثمارات الشرهة في الأزمة.
المكبات إن طفت
بعيداً عن السجال الدائر بين التيارات السياسية في «متن» المشكلة، بيّن آخر تقرير رفع الى مجلس الوزراء، وأقرّ في جلسة 11/1/2018، مع ملخص السياسة المستدامة، أن لبنان ينتج حالياً حوالى 6500 طن من النفايات المنزلية الصلبة في اليوم الواحد. يجري تصريف حوالى 50% منها عشوائياً في المكبّات. وإن هناك حوالى 940 مكبّاً، نشطة وقديمة. كما ينتج لبنان حوالى 50 ألف طن من النفايات الصلبة الخطرة في العام، لم يتم بعد وضع أي إطار لمعالجتها. ويبلغ حجم المياه المبتذلة (التي لا تدخل في حساب وزارة البيئة حسب التقرير المذكور) أكثر من 310 ملايين م3 سنوياً، منها 250 مليون م3 حضري ومنزلي، و60 مليوناً صناعي.
تذهب الكمية الأكبر من مياه الصرف المنزلية الى الأودية والأنهار والبحر، وكل مياه الصرف الصناعية لا تعالج وتصب في الأنهار والأودية والبحر أيضاً. أما مشاريع البلديات الصغيرة للمعالجة، ولا سيما في منطقة المتن، موضوع النزاع السياسي أمس، والتي ادعت أنها استحدثت معامل، فهي لا تزال تهرّب المتبقيات الى مكبات للنفايات داخل المنطقة أو خارجها، ما يحتم أن تكون هناك خطط مركزية قوية تلحظ المعالجات من أولها الى آخرها بشكل كامل ومتكامل، ليصبح لطرح اللامركزية معنى، بعيداً عن السجالات الانتخابية.