يوما بعد يوم، تتراكم وقائع مقلقة عن حال الارباك السائدة في مصرف لبنان والارتجال الطاغي في التعامل مع أكثر المسائل حساسية، وهي النقد. فالنفي الصادر عن حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف لخبر «حصر السحوبات النقدية عبر الصرّاف الالي بالليرة اللبنانية فقط»، لم يفعل سوى زيادة منسوب البلبلة، اذ ان الخبر لم يكن وليد شائعة او اقاويل، بل كان مصدره تعميم صادر عن الامين العام لجمعية المصارف، مكرم صادر. فما الذي جرى؟ ومن كان يسعى الى تمرير هذه الخطوة غير المسبوقة؟ ولأي هدف؟
في 19 كانون الثاني الجاري، تلقّت ادارات المصارف العاملة في لبنان تعميماً خطياً من جمعية المصارف (الصورة المرفقة)، رقمه 024/2018، وممهورا بتوقيع الامين العام، مكرم صادر، جاء في نصه الحرفي: «ان مصرف لبنان في صدد الاعداد لوضع اوراق نقدية في التداول من فئة المئة الف ليرة، وهو بصدد اصدار تعميم لحصر عمليات الدفع على الصراف الآلي (ATM) بالعملة اللبنانية».
ودعا التعميم نفسه الى اجتماع يعقد اليوم (ظهر الخميس في 25/1/2018)، في مقر الجمعية، مع مسؤول العمليات النقدية في مصرف لبنان، مازن حمدان. وطلب من ادارات المصارف ايفاد مسؤولي النقد والصراف الآلي لديها لحضور هذا الاجتماع.
امس، نقل موقع «ايلاف» عن مصدر مصرفي «أن حاكم مصرف لبنان المركزي سيصدر في الأيام المقبلة قراراً يطلب بموجبه من المصارف في لبنان توقيف خدمة سحب الدولار الأميركي من خلال ماكينات الصرف الآلي التابعة لها، فلا يبقى متاحاً للزبائن حملة البطاقات الإلكترونية سوى السحب بالليرة اللبنانية، حتى لو كانت حساباتهم في المصارف بالدولار».
اثار هذا الخبر بلبلة واسعة، وتساؤلات عن الاسباب والاهداف الكامنة وراء التفكير بهذه الخطوة غير المسبوقة. فسارع المكتب الإعلامي لحاكم مصرف لبنان الى نفي الخبر، وقال إنّه «عار من الصحة ولا يمت للحقيقة بأي صلة». كما صرح رئيس جمعية مصارف لبنان، جوزف طربيه، لجريدة «المستقبل»، بأن هذا الخبر «غير صحيح على الاطلاق» . وقال «إنّ جمعية المصارف لم تقارب هذه المسألة ولم تُطرح عليها لا من قريب ولا من بعيد». وجزم أنّ الجمعية «ليست في وارد أي تغيير في التداول بكل العملات عبر الصرافات الآلية«، معتبرا أنّ «لبنان بلد الحريات الإقتصادية، والمصارف ستحافظ على هذا النهج».
ما الذي حصل؟ ولماذا يجري التملص من تعميم رسمي صادر عن جمعية المصارف وموزّع على كل الاعضاء؟ وهل «اخترع» الامين العام لجمعية المصارف الامر برمته؟ ام ان الامر كان مطروحا ويجري التراجع عنه؟ ولماذا؟
اسئلة كثيرة طرحها المتابعون بعد صدور النفي من الحاكم والجمعية، ولا سيما ان التعميم الصادر عن جمعية المصارف واضح ولا لبس فيه، وهو لا يكتفي بالاعلان عن نية مصرف لبنان اصدار تعميم لحصر عمليات الدفع على الصراف الآلي (ATM) بالعملة اللبنانية، بل يدعو الى اجتماع مع المسؤول المعني في المصرف المركزي لتقديم الياته التنفيذية.
بحسب معلومات «الاخبار»، بدا حاكم مصرف لبنان، امس، مستاء جدا من انتشار الخبر وكيفية انتشاره، ولا سيما ان هذه الخطوة رُبطت بالعقوبات الاميركية على حزب الله والضغوط السعودية على لبنان. فاتصل فورا بطربية، وطالبه بنفي الخبر والغاء الاجتماع الذي كان مقررا اليوم، كما طلب من المسؤولين المعنيين في مصرف لبنان عدم حضور اي اجتماع في هذا الشأن!
حاولت «الأخبار» الاتصال بكلّ من طربيه وصادر لاستيضاح ملابسات صدور التعميم المذكور، الا أنها لم تتلق اجوبة، ما عزز الانطباع بوجود حال من التخبط والارباك، وهو ما عكسته مواقف المصرفيين الذي وافقوا على التعليق.
يقول رئيس قسم البحوث والدراسات في مجموعة «بيبلوس بنك»، نسيب غبريل: «لا علم لنا بالتعميم الصادر، لقد ولّدت هذه الأخبار لدينا فضولاً لمعرفة ما الذي قد يدفع مصرف لبنان لإمكان إصدار قرار يوقف سحب الدولار عبر الصرّافات الآليّة». وعبّر المدير التنفيذي في «بلوم بنك»، فادي عسيران، عن تفاجئه بالتعميم فضلاً عن «عدم معرفة الأسباب وراء إمكان إصدار مصرف لبنان قراراً مماثلاً».
ينفي غبريل وجود أي ارتباط بين إصدار القرار من هذا النوع واستمرار الطلب على الدولار ومحاولات تخفيف الضغط على الليرة، في حين يرى مدير في أحد المصارف الكبرى (رفض ذكر اسمه) أن «اتخاذ إجراء مماثل كتدبير احترازي لمواجهة أي ضغط محتمل على الليرة، وبالتالي تخفيف استعمال الدولار، خصوصاً أن الأرضيّة النقديّة مهيّأة لأي أزمة كون ميزان المدفوعات يسجّل عجزاً تراكمياً منذ عام 2011، هو إجراء دون أي قيمة فعليّة، باعتبار أن العمليات النقديّة ليست محصورة بالسحب والدفع عبر الصرّاف الآلي فقط».
بالفعل، لا يزال «الكاش»، او التداول بالنقد الورقي، هو اداة الدفع الرئيسة في لبنان، ولا يزال الكثير من الزبائن يفضلون اجراء السحوبات عبر صناديق المصارف مباشرة، في حين ان الشيك يبقى الوسيلة الرئيسة المستخدمة في المدفوعات غير النقدية، اذ بلغت القيمة الاجمالية للشيكات المتقاصة اكثر من 68 مليار دولار في 2016، بحسب تقرير نشرته جمعية المصارف في ايلول 2017. ولكن، هذا لا يعني ان السحوبات النقدية عبر اجهزة الصرف الالي ليست مهمّة، فبحسب احصاءات مصرف لبنان، جرى في عام 2016 تنفيذ نحو 37 مليون عملية سحب من اجهزة الصراف الالي بقيمة اجمالية بلغت نحو 9.1 مليارات دولار، وشكلت 74.4% من القيمة الاجمالية للعمليات الجارية عبر البطاقات (سحوبات ومشتريات)، علما ان حصة السحوبات النقدية بالليرة اللبنانية بلغت 71.1%، ما يشير الى ان الليرة تستخدم اصلا كعملة رئيسة للسحب النقدي من اجهزة الصراف الالي، باعتبار ان معظم العمليات يجريها العمال والموظفون للسحب من اجورهم بالليرة الموطنة في حسابات المصارف.
يشير مصدر مصرفي مطلع إلى «إرباك واضح طغى على اجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان، أمس، ونجم عنه إصدار بيان مقتضب ينفي توجّه مصرف لبنان لحصر عمليّات الدفع على الصرّاف الآلي بالعملة اللبنانيّة»، بالتزامن مع إطلاق «عمليّة ترويج روايات تبرّر توجّه المصرف المركزي لإجراء مماثل، ترتكز إلى تشجيع النقد الوطني كخطوة يتم التحضير لها منذ فترة عبر سلسلة من الإجراءات التقنيّة، وأوّلها حصر الدفع على الصرّاف الآلي بالعملة المحليّة، فضلاً عن ربط هذا الإجراء بزيارة مساعد وزير الخزانة الأميركيّة لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب إلى لبنان والضغوط الأميركيّة على حزب الله، وإدراجها في إطار تطبيق سلسلة إجراءات تحصر استعمال النقد بالدولار غير المعروفة أوجه استعماله».
يردّ الوزير السابق شربل نحّاس على هذه «الروايات» بالإشارة إلى أن «تاريخ الدعوة الموجّهة إلى المصارف في 19 كانون الثاني الحالي تسبق زيارة الوفد الأميركي إلى لبنان، كما أن ربط إجراء مماثل بفرض رقابة على عمليّات الدفع بالدولار عبر الصرّاف الآلي قد تصبح ذات قيمة في بلد يمنع تداول الدولار وليس في لبنان حيث التداول يتمّ بالدولار وبالليرة اللبنانيّة. أمّا في ما يتعلّق بتعزيز التعامل بالنقد الوطني (وهو أمر يشجّع عليه الاقتصاديون) من باب التداول النقدي فهو أيضاً ليس المدخل الصحيح بل مجرّد خطوة ثانويّة، كون تسعير السلع والخدمات والعقود في الدولة اللبنانيّة تتمّ كلّها بالدولار الأميركي»، ويضيف نحّاس رداً على الكلفة الباهظة للسياسة النقديّة والتي قد تدفع لإصدار قرارات تحدّ من استعمال الدولار، بالإشارة إلى أن «الحدث الراهن لا يؤدي إلى ذلك، لكن المؤكّد أن استعمال روايتي تشجيع النقد الوطني أو الرقابة على الدولار، ينمّان عن عدم كفاءة فاقعة وقلّة مسؤوليّة في التعامل مع مسألة حسّاسة متعلّقة بالنقد، وهو أمر يشغل البال».
على اي حال، يعتبر خبراء كثر ان اثر مثل هذا الاجراء، في حال المضي بتنفيذه، سيبقى محدوداً جداً في اقتصاد مدولر بصورة شبه تامة، وهو سيستهدف بالدرجة الاولى صغار المتعاملين بالدولار مع البنوك، ويرتب عليهم كلفة التحويل من الدولار الى الليرة عند السحب النقدي من حساباتهم او بطاقاتهم الائتمانية عبر اجهزة الـATM، اذ ان اكثرية الودائع بالدولار (كما بالليرة) هي لقلة قليلة من كبار المودعين، وهؤلاء لا يحركون ودائعهم عبر اجهزة الصراف الالي.