تبلّغ لبنان أخيراً من الجانب الفرنسي انه لن يجري تحديد موعد لانعقاد مؤتمر «باريس ــــ »4، ما لم تضع الحكومة اللبنانية «خطّة اصلاحية»، تلتزم فيها خفض عجز الموازنة وضبط نمو الدين العام واشراك القطاع الخاص في البنى التحتية والخدمات العامّة... هذا «البلاغ» عدّه متابعون للتحضيرات الجارية لعقد هذا المؤتمر بمثابة اعلان «عدم رضى» على ما تم انجازه حتى الآن تحت عنوان «الخطة الاستثمارية للحكومة»، والتي لا تتعدى كونها عملية تجميع للمشاريع غير المنفّذة منذ سنوات طويلة، والتي تصل كلفتها الاجمالية الى اكثر من 22 مليار دولار، بحسب اللائحة الموزّعة من قبل الفريق الاقتصادي في رئاسة الحكومة

فيما المؤشّرات تتوقّع حدوث أزمة ماليّة خطرة في لبنان، تتجّه الحكومة إلى «حِقن المورفين» لتأجيل هذا الانهيار، وبالطرق المعهودة منذ التسعينيات، أي عبر اللجوء إلى الاستدانة وتوظيف الأموال لدعم القطاع الخاص، وعلى رأسه المصارف.

هذا ما تمّ التعبير عنه خلال اجتماع لجنة الاقتصاد البرلمانيّة مع فريق رئاسة الحكومة، المخصص لمناقشة الخطّة الاستثماريّة التي ستُطرح في مؤتمر «سيدر 1» (المعروف إعلامياً باسم «باريس ــــ 4»).
يبني فريق رئاسة الحكومة خطته على هدف «رفع معدّل النمو من خلال رفع معدّل الإنفاق الاستثماري»، معتبرا أن «ارتفاع حجم الدين ليس شديد الخطورة بقدر ارتفاع نسبة هذا الدين إلى الناتج المحلي». ويرى أن «الإنفاق الاستثماري سيرفع معدّل النمو ويكبّر حجم الاقتصاد، وبالتالي فإن نسبة الدين إلى الناتج المحلي ستنخفض». وانطلاقا من هذا التبسيط يخلص الى ان «ليس هناك ما يثير المخاوف».
هذه «النظرية»، التي لم تثبت صحتها في تجارب لبنان والبلدان الاخرى، كانت محل انتقاد داخل اللجنة البرلمانية، كون «المطروح يتناقض مع مسار ضبط تضخّم الدين وخفض نسبة العجز الذي تسعى إليه الدولة اللبنانيّة منذ سنوات، وهذا الإنفاق الاستثماري الكبير شبيه بالإنفاق في مرحلة إعادة الإعمار، ويعيد تشريع البلد على كمّيات كبيرة من الدين ستؤدي إلى تداعيات سلبيّة على الماليّة العامّة، خصوصاً إذا كانت، كما سابقاتها، مجرّد حركة سيجري ابتلاعها بسرعة، ويعود بعدها البلد إلى أزمته في شكل مضاعف».
بحسب مصادر اللجنة البرلمانيّة، فإن حجم هذا الإنفاق الاستثماري «شبيه بالإنفاق الذي تمّ في مرحلة إعادة الإعمار بعد الطائف، في توقيت يسبق الإنتخابات النيابيّة المقبلة، ويستهدف مناطق محدّدة في مرحلته الأولى (بيروت وجبل لبنان والشمال) ويفتح الأبواب للقطاع الخاص، في حين من المفترض إبعاد أي خطّة عن الحسابات السياسيّة، ودراستها بصورة علميّة لمعرفة التأثيرات الاقتصاديّة والماليّة المترتبة عليها، خصوصاً أن حاجات الاقتصاد اللبناني تنقسم إلى حاجات قصيرة المدى شبيهة بالخطّة الاستثماريّة، وأخرى متوسطة المدى واستراتيجيّة أكثر عمقاً تعيد هيكلة النموذج الاقتصادي القائم».

ماذا في الخطّة الاستثماريّة؟

نهاية آذار المقبل هو الموعد المُرتقب لانعقاد مؤتمر مجموعة الدعم الدوليّة لمساعدة لبنان، في باريس، بعنوان «سيدر ــــ 1» (Cedre1)، حيث ستعرض الحكومة اللبنانيّة خطّتها الاستثماريّة التي تشتمل على تنفيذ مشاريع لتطوير البنى التحتيّة بقيمة 16.9 مليار دولار أميركي. وتأتي هذه الخطة استجابة لمطالبة الدول المانحة بوجوب تقديم خطّة أولاً، وهو ما تمّ التعبير عنه خلال زيارة الحريري إلى بلجيكا في نيسان 2017، على هامش مشاركته في مؤتمر «دعم مستقبل سوريا والمنطقة»، ومطالبته المجتمع الدولي بزيادة الدعم المالي للبنان لمساعدته على تحمّل أعباء اللاجئين السوريين، من خلال تمويل مشاريع لتطوير البنى التحتيّة لخلق فرص عمل للبنانيين والسوريين.

يقول نديم المنلا، المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة، إن «ورشة إعداد الخطّة الاستثماريّة أُطلقت بعد أشهر من تشكيل حكومة الحريري في كانون الأول 2016، بمشاركة الوزارات ومجلس الإنماء والإعمار، وقضت بتحديد الحاجات الراهنة والحاجات المتوقّعة لخمس سنوات مُقبلة، فضلاً عن توثيق المشاريع التي أعدّت دراساتها ولم تنفّذ، وجمعها معاً لتشكيل خطّة تتبنّاها الحكومة».
تستند الأسباب الموجبة لانعقاد مؤتمر دعم الاقتصاد اللبناني، بحسب المنلا، الى ثلاثة مؤشرات رئيسة، وهي: «أزمة البطالة التي تضاعفت إلى 20%، وباتت تزيد على 30% بين الشباب، وتفاقمت بعد تدفق اللاجئين السوريين. وتهالك وترهّل البنى التحتيّة التي يستهلكها 6 ملايين شخص مقيم، فيما هي مُعدّة لخدمة 3 ملايين فقط. والمؤشر الثالث، هو تراجع نمو الناتج المحلي من 8% قبل أزمة اللاجئين إلى 1% بعدها». ويشير المنلا إلى أن «الاعتماد على السياسة القديمة القائمة على خلق جوّ ملائم للقطاع الخاصّ ليولّد فرص عمل لم يعد نافعاً، لذلك وضعنا سياسة إعماريّة قادرة على انتشال الاقتصاد اللبناني من أزمته، عبر مشاريع بنى تحتيّة نحن في حاجة إليها، وقادرة على خلق فرص عمل نقدّرها بنحو 120 إلى 160 ألف فرصة عمل سنويّة، من المتوقّع أن تحقّق معدّلات نمو مباشر وغير مباشر بنسبة 6 الى 8%».
وبحسب لائحة المشاريع التي اعدّها الفريق المذكور، هناك أكثر من 250 مشروعاً مُقترحٌ تنفيذها خلال عشر سنوات، نصفها ذو طابع محلي ونصفها الآخر ذو طابع مركزي، سيتم عرضها في «سيدر ــــ 1» بعد التوافق عليها مع القوى السياسيّة كافّة، على أن يتم تنفيذها على 3 مراحل وفقاً للأولويات. وبحسب المنلا، «هناك مشاريع بقيمة 7.5 مليار دولار يستطيع القطاع الخاصّ تنفيذها متعلّقة بالمواصلات والطاقة والنفايات والاتصالات، وهناك دول أبدت رغبتها في مشاركة شركاتها لتنفيذها استناداً إلى قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، الذي أقرّ اخيراً في مجلس النواب، في حين سيتم السعي لتأمين قروض ميّسرة لمدّة 30 سنة بفائدة لا تتجاوز 1.5% مع فترة سماح لتنفيذ المشاريع الأخرى».

بروباغندا وشعبوية وقطاع خاص

في الواقع، ليست هذه «الخطّة الاستثماريّة» إلّا اقتباساً مجتزأً من «برنامج الاستثمار العام» (الخطّة الكاملة مرفقة)، الذي أقرّه مجلس الوزراء عام 2006، وقدّمته الحكومات في مؤتمرات دوليّة عدّة، بحسب الوزير السابق شربل نحّاس، وأضيفت إليه «مشاريع غير منفّذة جُمّعت عشوائياً من الوزارات، فأحدثت تغييراً جوهرياً على برنامج الاستثمار العام». علماً أن هذا البرنامج يرتكز إلى دراسة أجرتها «دار الهندسة» ومكتب نحّاس لصالح مجلس الإنماء والإعمار بين عامي 2005 و2006، وتضمنت رؤية تخطيطية لمدّة 10 ــــ 15 سنة، بعدما عاينت الآثار التي رتبها الإنفاق العام خلال فترة التسعينيات على الاقتصاد اللبناني، وحدّدت منهجيّة اختيار المشاريع الاستثماريّة وأولوياتها وسبل تمويلها، والسياسات القطاعية وبرامجها، فضلاً عن المشاريع الاستثماريّة التي يحتاجها كل قطاع.

يقول نحّاس إن لتوقيت المؤتمر وهوية المشاركين فيه وطروحاته معاني أساسيّة، تتمثّل بـ:
1 ــــ انعقاده قبل الانتخابات النيابيّة في أيار 2018 بما يتيح للسلطة اللبنانيّة إطلاق مشاريع إنمائيّة تستكمل من خلالها الترويج لبروباغندا إنجازاتها، وهو ما يمدّها بدفع شعبوي ويحقّق لها مكاسب من خلال المشاريع التي ستلزّم للقطاع الخاص.
2 ــــ تكريس النهج القاضي بإحلال القطاع الخاصّ مكان الدولة لتنفيذ مشاريع إنمائيّة والاستثمار في البنى التحتيّة لقاء مبالغ ضخمة ولسنوات طويلة، بدلاً من القيام بمشاريع استثماريّة ذات قيمة مضافة تراكم رأس المال وتخلق فرص عمل، وهو ما تترتّب عليه احتكارات تنعكس على نوعيّة الخدمة العامّة المقدّمة للمواطن، فضلاً عن إخفاء قيمة الدين العامّ الفعليّة والفوائد المترتبة عليه وبالتالي إخفاء جزء من العجز المالي.
3 ــــ تبيان مصالح الجهات المانحة التي بأغلبيتها ستكون دولاً أوروبيّة، تتركّز أهدافها على وقف تدفق اللاجئين السوريين عبر حدودها، من خلال إبقائهم في الدول المضيفة وتمكينهم فيها عبر دعم مشاريع تولّد فرص عمل تؤمّن متطلبات عيشهم.
4 ــــ مساعي فرنسا لتركيز نفوذها في المنطقة في ظلّ التغييرات العالميّة والإقليميّة في موازين القوى، من خلال تبنيها للمؤتمر وتنظيمه.

الملاحظات على الخطّة!

يبدو أن خيارات لبنان ضيّقة لمواجهة أزمته الاقتصاديّة المُزمنة والناتجة عن عدم قدرته على توليد فرص عمل، وهي سابقة لأزمة اللجوء السوري، بسبب غياب الاستثمارات في القطاعات المُنتجة والمولّدة للقيمة المضافة، بحسب ما يشير رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبد الحليم فضل الله، وهي تنحصر بين «خفض النفقات الجاريّة لصالح النفقات الاستثماريّة. الحصول على قروض تنميّة طويلة الأمد ومن دون فائدة ومساعدات لقاء استقباله اللاجئين السوريين. معالجة التهرّب الضريبي المقدّر بنحو 4 مليارات دولار سنوياً. تفعيل الجباية كون إيرادات لبنان الضريبيّة أقل 7 نقاط مقارنة مع الدول المتوسطة الدخل. واللجوء إلى عقود شراكة مع القطاع الخاص».

وينبثق عن خيار اللجوء إلى الشراكة والقروض، وفق الخطّة المعروضة، مجموعة ملاحظات أوليّة يلخّصها فضل الله بالآتي:
1 ــــ هيكليّة التمويل المُفترض أن تتناسب مع الحاجات المحليّة منعاً لتفاقم الدين العام، بحيث تكون أقل من الكلفة التي يرتبها التموّل من الأسواق الماليّة، أي عبر اللجوء إلى قروض بفوائد منخفضة مع فترة سماح، وأن يكون جزء من التمويل عبارة عن منح لأن المؤتمر يستند إلى وجود أزمة لاجئين وليس إلى أزمة ماليّة، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤولياته تجاه لبنان لا تحميله أعباءً ماليّة وديوناً إضافيّة لتنفيذ مشاريع تدخل في إطار التكيّف مع اللاجئين.
2 ــــ التركيز على مشاريع مركزيّة لتحقيق نهصة إنمائيّة بدلاً من خلق فورة مشاريع عشوائيّة لا تتطابق مع الحاجات الفعليّة، وسدّ العجز في الاستثمار الناشئ عن القصور في الإنفاق على البنى التحتيّة خلال السنوات العشر السابقة والمقدّر بنحو 16 مليار دولار، كما التركيز على قطاعات اجتماعيّة مثل التعليم والصحة (ميزانياتها منخفضة في الخطّة)، والقطاعات التي تمتصّ اليد العاملة مثل اكتشاف النفط والغاز، إضافة إلى التركيز على الطابع التنظيمي لبعض القطاعات وتنفيذ الخطط الموضوعة مثل خطة ترتيب الأراضي.
3 ــــ تحويل لبنان إلى ساحة مشرّعة أمام القطاع الخاص، بحيث لا يجب إخراج قطاعات وموارد حيويّة عن سيطرة الدولة وإشرافها المباشر مثل المياه والكهرباء والاتصالات، فهناك تقارير عن الأبعاد الاقتصاديّة للشراكة مع القطاع الخاصّ صادرة عن مؤسّسات دوليّة تروّج بالعادة لهذا النموذج (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، وتقرّ بأن هذه العقود «أكثر تكلفة من المشتريات التقليديّة التي تنشئ فيها الهيئات العامّة بمفردها أصول البنية التحتيّة أو تتعاقد مع مموّل خاصّ لبنائها.
4 ــــ التغاضي عن معالجة أزمة الاقتصاد اللبناني الذي يعاني من عدم القدرة على توليد فرص عمل، نتيجة ضعف الاستثمار في الصناعة والزراعة لصالح دعم قطاعات ريعيّة كالمصارف والعقارات. علماً أن التمركّز الاقتصادي واعتماد الاقتصاد على التحويلات خفّض قدرته على توليد فرص عمل، والدليل هو حصّة الأجور المنكمشة داخل الاقتصاد، ونمو إنتاجيّة العمل في القطاع الخاص في شكل أعلى من نمو الأجور، نتيجة استحواذ احتكاري عبر المداخيل الريعيّة (الفوائد والتحويلات) التي تشكّل 20 ــــ 25% من إجمالي الناتج المحلي، فضلاً عن زيادة معدّلات الفقر والتفاوت بتوزيع المداخيل بالتزامن مع زيادة النمو.

الحاجة الفعليّة: عقد اقتصادي جديد!

رغم الحرص الذي بذلته الحكومة لتبديل اسم المؤتمر من «باريس ــــ 4» إلى «سيدر ــــ 1»، وفق وزير الاقتصاد رائد خوري، لأسباب وصفها بـ«النفسيّة تفادياً لتشبيه المؤتمر الحالي بما سبقه من مؤتمرات لم تحقّق النتائج المرجوة منها»، إلّا أنه لا يشكّل سوى استمرار للنهج نفسه في إدارة اقتصاد البلد، ورفده بدعامات تحول دون انهياره، فيما المطلوب هو التوافق على عقد اقتصادي جديد منبثق عن حوار بين كلّ مكوّنات الاقتصاد اللبناني.

هذه التجربة سبق أن خاضها لبنان بين عامي 2007 و2009، عندما نظّم الاتحاد الأوروبي حواراً بين الكتل النيابيّة وممثلي القطاعات الاقتصاديّة والنقابات، أفضى إلى إحداث إختراقات ووضع مبادئ عامّة وأخرى تفصيليّة، وتوقيع المشاركين على 4 اتفاقيات (النصوص كاملة مرفقة) حول التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومعالجة مشكلة الدين العام، وترشيد النفقات العامّة، وإعادة هيكلة النظام الضريبي وإصلاحه، وتفعيل قطاعي الصناعة والزراعة، فضلاً عن تفعيل الخدمات العامّة والسياسات الاجتماعيّة والتربويّة والصحيّة، وتنمية المناطق والتقارب بينها، وتعزيز المنافسة اللبنانيّة، بما يخلق اقتصاداً منوّعاً ويولّد فرص عمل، ويكافح الفقر، ويحدّ من الهجرة. وقد عرضت هذه الاتفاقيات في حكومة نجيب ميقاتي ولكنّها لم تنفّذ.
يقول وزير المال السابق جورج قرم إن «تجربة الاتحاد الأوروبي ليست الوحيدة فقد أعدّ المجلس الاقتصادي الاجتماعي خطّة نهوض للبنان، وعلى الرغم من النتائج المذهلة التي تمّ التوصّل إليها، إلّا أن شيئاً لم ينفّذ نتيجة نظام المحاصصة المُدمّر والمستمرّ بحكم استمرار السلطة نفسها». فعلى سبيل المثال أقرّ الحوار التغطية الصحيّة الشاملة وضمان الشيخوخة، لكن الحكومة توجّهت نحو تطبيق مصالح أعضائها، وتلزيم مشروع البطاقة الصحيّة الذي قدّمه وزير الصحّة آنذاك محمد جواد خليفة مع ينطوي عليه من شبهات، فيما كلا المشروعين (التغطية الشاملة وضمان الشيخوخة) ما زالا معلّقين من دون تنفيذ.
في الواقع، تعود أزمة الاقتصاد اللبناني إلى الأربعينيات، بحسب ما يوضح قرم، اذ أن «الفكر الليبرالي طغى على الاقتصاد اللبناني منذ الاستقلال، وتركّز على الخدمات والسياحة والوساطة، وهو ما أدّى بحسب دراسة أعدّتها بعثة IRFED في عهد الرئيس فؤاد شهاب إلى استحواذ 4% من اللبنانيين على 32% من الدخل الوطني، ما انعكس فقراً وحرماناً وتبايناً بين المناطق نتيجة سوء توزيع الدخل وتركّز الثروة. أمّا بعد إنتهاء الحرب، فقد سوّق الفريق الإعماري للأفكار النيوليبراليّة وكيفيّة الاستفادة الريعيّة من موقع لبنان الجغرافي لتطوير الوساطة التجاريّة والماليّة، من دون التفكير بالزراعة والصناعة والقدرات الإنتاجيّة. فوقّعت حكومات ما بعد الحرب اتفاقيات تبادل حرّ قتلت الصناعة والتجارة، واعتمدت على سياسات إعماريّة لتطوير البنى التحتيّة فقط، حتى الخدمات العامّة وقعت تحت نفوذ كبار الزعماء ضمن منطق المحاصصة، كما تم التعويض للناس عن فقدان منازلهم من دون التعويض عن فقدان المصانع، وبدلاً من رفع الضرائب لتمويل إعادة الإعمار خفّضت وتمّ التوجّه نحو الاستدانة. وهو ما أدّى إلى استمرار استثمار اللبنانيين في تعليم أبنائهم لتصديرهم إلى الخارج بدلاً من السلع، نتيجة عدم وجود فرص عمل، مقابل الاستفادة من التحويلات التي يرسلونها والتي تشكّل نحو 10% من الدخل الوطني، فيما يستورد لبنان أيدي عاملة رخيصة، وهو ما ساهم بتوليد أرباح كبيرة».
تكمن الحاجة الفعليّة لحلّ مشكلات لبنان الاقتصاديّة بمعالجة على مستويين، بحسب قرم، «الأوّل متعلّق بالأوضاع السياسية والثاني بالأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة»، وهي تتطلّب «فصل البنية القانونيّة للدولة عن البنية القانونيّة للطوائف، انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بالاقتراع المباشر من الشعب، واعتماد النظام النسبي في الانتخابات، بما يفكّك الترابط بين السلطة والطوائف وما ينتج عنه من تكريس لنظام الزعامة وتحويل الديمقراطيّة إلى حكم الأثرياء، فضلاً عن إصلاح النظام الضريبي لجعله يتناول المداخيل الماليّة والريعيّة وتخفيف وطأته عن المداخيل الناتجة عن نشاطات إنتاجيّة، والقضاء التدريجي على دولرة الاقتصاد وعلى استعمال ازدواج العملة لتوليد مداخيل غير شرعيّة على حساب الخزينة، وإصلاح النظام التربوي بما يعالج هجرة الكفاءات».


عمد فريق رئاسة الحكومة إلى تجميع المشاريع غير المنفّذة طوال السنوات الماضية، وضمّها معاً، بوصفها الخطّة المتوقّع تقديمها في مؤتمر «سيدر 1»(الخطّة الكاملة مرفقة). في الواقع، وبحسب مصادر تعمل على الخطّة، خضع البرنامج الاستثماري العام لمجموعة من التعديلات بما يتماشى مع مصالح الكتل السياسيّة الانتخابيّة، ويتنافى مع كلّ المعايير العلميّة المعتمدة لتحديد أولويات المشاريع وجدواها الاقتصاديّة. ويبدو واضحاً تركيز الإنفاق في المرحلة الأولى من الخطّة على مناطق بيروت وجبل لبنان والشمال، لأسباب انتخابيّة تكمن في تراجع نفوذ وسلطة القوى النافذة فيها، بحسب المصادر نفسها، فضلاً عن الإصرار على تنفيذ مشاريع غير مجدية اقتصادياً بحسب دراسات مرفقة بها، مثل سكة الحديد بين طرابلس والحدود السوريّة التي، كما تفيد الدراسة الموجودة لدى مجلس الإنماء والإعمار، ستكون كلفتها أكبر من مردودها، ويضاف إلى ذلك تخطّى قيمة المشاريع المعروضة ضمن الخطّة الكلفة التي أعلن عنها بنحو 5.5 مليارات دولار. القيمة الإجماليّة لتنفيذ الخطّة بحسب التصريحات الرسميّة تبلغ نحو 16.9 مليار دولار، فيما كلفة المشاريع التي تتضمّنها يصل مجموعها إلى نحو 22.5 مليار دولار. للصورة المكبرة انقر هنا

 


مؤتمرات دعم لبنان

ـــ مؤتمر واشنطن: عقد في كانون الثاني 1996 في واشنطن تحت شعار «مؤتمر أصدقاء لبنان» بمشاركة نحو 30 دولة وممثلين لـ 10 مؤسسات مالية دوليّة، حيث تقرّرت مجموعة مساعدات وهبات وقروض لتمويل مشاريع إنمائيّة.
ـــ مؤتمر باريس 1: عقد في شباط 2001 في قصر الإليزيه بحضور ممثلين عن البنك الدولي والمفوضية الأوروبيّة والبنك الأوروبي للاستثمار. تركّزت خطّة الحكومة اللبنانيّة على دعم القطاع الخاص، دمج الاقتصاد اللبناني بالاقتصاد العالمي، خفض التعريفات الجمركيّة، خفض العجز المالي في الموازنة، إدارة الدين والخصخصة. وحصل لبنان على 500 مليون يورو على شكل مساعدات وقروض ميسّرة كمساعدة أوليّة، تمهيداً لعقد مؤتمر آخر موسّع (باريس 2).
ـــ مؤتمر باريس 2: عقد في تشرين الثاني 2002 في قصر الإليزيه بمشاركة 23 دولة أوروبيّة وعربيّة وآسيويّة، ومؤسسات ماليّة دوليّة.
تركّزت خطّة الحكومة على خفض العجز المالي وإعادة هيكلة الدين العام وخصخصة قطاعي الاتصالات والكهرباء. وحصل لبنان على قروض بقيمة 4.4 مليارات يورو بفائدة 5%: 3.1 مليارات كمساعدة ماليّة و1.3 مليار لمشاريع بنى تحتية. واستخدمت المساعدة المالية في إعادة تمويل الدين العام بالعملة الأجنبيّة وإعادة جدولته عبر إطالة أجله وتخفيض كلفة خدمته.
ـــ مؤتمر ستوكهولم: عقد في ستوكهولم في آب 2006 بدعوة من الحكومة السويديّة وبدعم من الأمم المتحدة بحضور نحو 50 دولة ومؤسّسة ماليّة، حيث منحت الحكومة اللبنانيّة مساعدة بقيمة 980 مليون دولار لإعادة إعمار ما دمّرته حرب تموز.
ـــ مؤتمر باريس 3: عقد في كانون الثاني 2007 في باريس بمشاركة 36 دولة و8 مؤسّسات ماليّة عالميّة، ارتكز على برنامج أعدّه الفريق الاقتصادي لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وركز على إصلاح القطاع المالي وتطوير الأسواق الماليّة وبيئة الأعمال للقطاعات الإنتاجيّة، تقوية شبكة الحماية الاجتماعيّة للفئات الضعيفة والمهمّشة، تقليص العجز والدين العام والمحافظة على الاستقرار المالي والنقدي، الخصخصة، والمحافظة على استقرار سعر الصرف ودعم وتمويل مؤسسات القطاع الخاص ودعم القطاع المصرفي. وحصل لبنان على هبات وقروض ميسّرة بقيمة 7.533 مليارات دولار.

المصدر: جريدة الأخبار - فيفيان عقيقي