لا حاجة لكثير من الشرح. التسوية السياسية التي حكمت البلاد مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة الرئيس سعد الحريري، وجرى تجديدها بعد احتجاز الأخير في السعودية، اهتزّت بعد أزمة «مرسوم الأقدمية»، ثم سقطت بالضربة القاضية التي وجهها لها الخطاب المسرّب للوزير جبران باسيل، الذي وصف فيه الرئيس نبيه بري بـ«البلطجي». كان بري، بحسب مقربين منه، يفتح الباب لاستيعاب الأزمة، معوّلاً على تدخّل لرئيس الجمهورية ميشال عون «يضع حداً لتداعيات ما ارتكبه باسيل».
لكن عون لم يحرّك ساكناً في هذا المجال. وعلى العكس من ذلك، خرج بعض من هم في فريقه ليعلن التضامن مع باسيل، حتى قبل أن يبدأ مناصرو أمل بالتحرك في الشارع. وبدلاً من المبادرة إلى الحل، سُرِّب تسجيل ثانٍ لباسيل، يهدّد فيه بـ«تكسير راس» رئيس المجلس.
بدأت «أمل» خطواتها التصعيدية تدريجاً. بيان لهيئة الرئاسة، ثم بيان للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، قبل نزول المناصرين لقطع الطرقات بالإطارات المشتعلة، في عدد كبير من المناطق. رافق ذلك هجوم واسع على باسيل وعون، على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يخل من شتائم بحق أفراد من عائلة الرئيس، في مقابل هجوم عوني على برّي. بدا أن كل الخطوط الحمر قد جرى تجاوزها.
ذروة التصعيد الميداني كانت في محيط المركز الرئيسي للتيار الوطني الحر في سن الفيل. هنا، تنفّس باسيل الصعداء. كان مرتبكاً طوال يوم أمس. لكن هجوم مناصري «أمل» على المركز، وتحركاتهم في الشوارع، استفزت جمهور التيار، وجعلت قيادة الأخير تراهن على «انقلاب» في ما تسميه «المزاج المسيحي» الرافض لردّ فعل أنصار برّي. هذا الارتياح جعل باسيل يتمسّك برأيه: لن يعتذر، تقول مصادر التيار، لافتة إلى أنه سيكتفي بالتعبير عن الأسف الذي أعلنه عبر «الأخبار» أمس. وتضيف المصادر: «الاعتذار المطلوب يكون بمثابة الخضوع الذي نرفضه. نحن نعتذر بأدائنا لا بناءً على الطلب». وتذهب المصادر أبعد من ذلك لتقول: «مستعدّون لإرشاد حركة أمل إلى مناطق محددة ليهاجموها. التهديد بالفتنة ما بيمشي معنا».
«سكرة» باسيل بـ«انقلاب المزاج الشعبي» تخيف بعض المسؤولين في التيار الذين يسألون: والآن، إلى أين؟ في رأيهم أن المواجهة مع بري تفيد التيار شعبياً، لكنها ستؤدي إلى تعطيل الحكومة، والمجلس النيابي، والمتضرر الأول في هذه الحالة هو العهد، والثاني هو رئيس الحكومة.
ما جرى في الساعات الماضية أظهر أن التسوية انتهت، وأن إعادة إحيائها تحتاج إلى ما هو أبعد من وساطة يبدو حزب الله عاجزاً عن أدائها. خطاب باسيل دفع الحزب إلى إصدار بيان يستنكر فيه كلام وزير الخارجية، رافضاً التعرض لبري، شخصاً ومقاماً، ومطالباً بحل الأزمة بحكمة ومسؤولية. أما الحريري، فيداه فارغتان من أي مبادرة. كل ما فعله أمس هو إقناع رئيس الجمهورية بتأجيل انعقاد المجلس الأعلى للدفاع، تجنباً لتحوّله إلى ميدان نزاع. خلاصة ما حدث أن البلاد دخلت أزمة جديدة، يصعب التنبؤ بمآلاتها.