لنعد بالزمن 12 عاماً. كانت الإشكالات شبه يومية بين شباب محلتي الشياح وعين الرمانة. لم يكن الجانبان يحتاجان إلى تمييز من يشتمونه في الجانب الآخر من الشارع. إلى أن، فجأة، في قلب كنيسة مار مخايل، على بعد عشرات الأمتار، وقّع الزعيمان، العماد ميشال عون والسيد حسن نصرالله، تفاهماً يظل استثنائياً في تاريخ لبنان المعاصر. وما بعده لم يعد كما قبله، فصار شباب المحلتين يتصرفون بطريقة مختلفة. حتى الموتورون بينهم، كانوا مضطرين إلى التمييز بين هذا أو ذاك عند حصول إشكال.

خلال سنوات الحرب الأهلية المقيتة، لم تترك جماعة لبنانية جماعة أخرى من شرّها، قبل أن ينتقل الشرّ إلى قلب كل جماعة بنفسها. حتى صار الشرّ هو ترياق العيش المشترك بين كل هذه الجماعات. لكن سنوات ما بعد الحرب، فرضت آلية خارجية لإدارة الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية في لبنان. وكانت سوريا تملك تفويضاً أميركياً وسعودياً في إدارة الدفة، وتوزيع الغنم والغرم على جميع اللاعبين. فتقرر أن تحجب فلاناً عن المشهد، أو أن ترفع من شأن فلان، غير آبهة لغضب جمهور أو أهالٍ أو ناس.

بعد مقتل رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، عاد اللبنانيون إلى هوية العيش المشترك بحب عنيف. وكادت الأمور تلامس حدود الانفجار مرات ومرات. لكن، في تلك الكنيسة الهادئة على تقاطع كله ضجيج، خرج التفاهم بين عون ونصرالله ليقفل الباب على أي محاولة لاستعادة نار الحرب الأهلية. ولما جربت إسرائيل تكرار احتلالها، كان هذا التفاهم أحد أبرز نقاط القوة في مقاومتها.
إلا أن التفاهم الموقَّع بين حزب الله والتيار الوطني الحر لم يقتصر مفعوله الإيجابي على تنظيمين وأعضائهما وبعض الجمهور. لقد خلق مناخاً عاماً، ساد مساحات تتجاوز نصف لبنان، وفرض على الآخرين، من داخل الطوائف نفسها أو من طوائف أخرى، التعامل معه كحقيقة قادرة على منع أخذ البلاد نحو فتنة جديدة. حتى فشلت كل محاولات الأميركيين والسعوديين في خلق بؤر تخترق هذا الهدوء، وظل الأمر ينتج انتصارات لهذا التفاهم، حتى وصل العماد عون إلى رئاسة الجمهورية.
قبل يومين، كنا في دفن الراحل مصطفى ناصر، في جبانة روضة الشهيدين في الشياح. بين الحاضرين شخص تربطه صلة بنواب من تكتل التغيير والإصلاح. كان يعبّر بضيق عما يجري في البلاد. صمت فجأة ثم قال: اتصل بي نائبان من التيار الوطني الحر، من دائرة بعبدا، وسألاني: نود المشاركة في مراسم الدفن، فهل تعتقد أن مشكلة قد تواجهنا إذا حضرنا إلى هذه المنطقة؟
ما الذي حصل، ما الذي يحصل؟
خلال الساعات الطويلة التي تلت حفلة تسريب الخطاب السخيف لجبران باسيل، وما أعقبه من تصرفات أكثر سخافة، ولو جاءت في معرض الاعتراض، بدا أنه يوجد في بيتنا من لا يأبه لحياة الناس، ومن لا يهتم لاستقرار البلاد، ومن يزعجه الهدوء والعيش الواحد. وبدا أنه يوجد في بيتنا، من يقول لنا صراحة، إن تقليد خطب الثائرين، أو صراخ أبناء الأزقة، هو ما تطرب له أذناه. وبدا أنه يوجد في بيتنا، من يعتقد أن بالإمكان إعادة الأمور إلى لحظات الانهيار العام. وبينما يتراشق المتعارضون خطباً وحجارة ورصاصاً، كان أهلهم، يبكون من رحلوا في الحرب المجنونة. وكان الجميع يعوِّل، من جديد، على من بيده الحكمة والتبصر والأمر، وها هو الجمع، ينظر من جديد، من خلف غبار الشوارع وفوق الأصوات الصبيانية، ليبحث عن يدين، لرجلين، ليس في لبنان الآن، غيرهما، من يقدر على الخروج إلى الشرفة ورفع الصوت: كفى ولدنة!
ولأن ما يجري لا يتعلق بشعبية أو زعامة أو نفوذ، بل هو، في حقيقة من يقود الفتنة اليوم، محاولة نقل مراكز القوة من هذه الضفة إلى تلك، على قاعدة أن الحياة ساعة لك وساعة عليك، فإن المسؤولية ستلقى من جديد على عاتق عون ونصرالله. وهذه المرة، يحتاج تفاهم مار مخايل، وعلى عتبة ذكراه الـ12 إلى صيانة وعناية. الحقيقة أن جهتين كانتا عرضة للإقصاء والتآمر يوم ذهبتا بعقل نحو هذا التفاهم. لكنهما اليوم، في موقع السلطة وموقع النفوذ، وحاجتهما، كما حاجة البلاد، إلى تفاهم أوسع قاعدة وأعلى سقفاً من كل المآذن والصلبان.

المصدر: جريدة الأخبار - إبراهيم الأمين