يتركز النشاط العسكري والسياسي الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة على ما تسميه إسرائيل بالجبهة الشمالية، هذا النشاط يعكس مخاوف إسرائيلية كبيرة معلنة تعكس هواجس السيناريوهات الأكثر سوءًا بالنسبة لإسرائيل، ربما تكون مخاوف مفتعلة ومبالغًا فيها بهدف الردع والإرهاب وأخذ "مصالحها" على محمل الجدية في الساحة السورية.
منذ ان قدرت إسرائيل بأن الحرب في سوريا قد حسمت لصالح النظام وحلفائه ولم يتبقّ سوى إنهاء جيوبها الأخيرة؛ اعتبرت إسرائيل نفسها أحد الأطراف الخاسرة للحرب، لأن أعداءها (إيران وحزب الله) هم من كسب الحرب ومن سيقطف الثمار، فبدأت بالتحذير ممّا وصفته "تمدد الوجود الإيراني"، بما في ذلك بناء قواعد عسكرية وقواعد صواريخ لتهديد الاستقرار على حدودها ولتهديد جبهتها الداخلية، وأعلنت خطوطها الحمراء وحذرت من أن المساس بها سيضطرها للتدخل العسكري، ممّا يهدد بانفجار الموقف.
رافق كل ذلك تسريبات للإعلام الأجنبي عن مواقع إيرانية مدعومة بصور أقمار صناعية لإظهار حجم المخاطر التي تتهددها، فضلًا عن الإعلان عن قيام طائراتها بقصف بعض تلك المواقع، وكانت روسيا دومًا هي القناة التي يلجأ إليها نتنياهو للتأثير والضغط ونقل الرسائل للنظام السوري وللإيرانيين.
ولتأكيد مستوى التهديد الذي يشكله الوجود الإيراني وأهدافه في سوريا وفي لبنان على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ليس فقط ان إسرائيل اعتبرته التهديد الأول ووصفته بالتهديد الاستراتيجي؛ فقد بدأت تتحدث عن تبني الإيرانيين لسيناريو الصواريخ الشمال كورية لكل من كوريا الجنوبية واليابان، وأنها لن تقبل العيش تحت تهديد مئات آلاف الصواريخ ذات الرؤوس الحربية الكبيرة والدقيقة في إصابة الأهداف والموجهة لجبهتها الداخلية.
لكن التهديد الأكثر خطورة بالنسبة لتل أبيب، والذي أعلن على لسان أكثر من مسؤول سياسي وأمني - بما يشبه الجوقة - في توقيت واحد يكمن في مصانع الصواريخ على الأراضي اللبنانية.
قبل ان يلتقي نتنياهو للمرة السابعة في غضون السنتين والنصف الأخيرتين مع بوتين يوم الأحد الماضي، أطلقت تل أبيب حملة تهديد وتحذير غير مسبوقة ضد لبنان، لا يمكن إلا أن يفهم منها أنها حملة لخلق إجماع إسرائيلي وتهيئة للرأي العام الإسرائيلي للمبادرة إلى حرب، وكسب الشرعية الدولية لمثل هذه الحرب.
فالناطق باسم الجيش مانيلس ينشر مقالًا بالعربية موجهًا للبنانيين، محذرًا إياهم من أنهم سيدفعون ثمن توجهات حزب الله وإيران داخل لبنان، وقال ليبرمان "إن إسرائيل غير معنية بحرب أخرى في لبنان، لكنها مصممة على منع تحول لبنان إلى مصنع واحد كبير لإنتاج الصواريخ الدقيقة"، أما بينت فقال "عليهم أن يفهموا بأنهم هذه المرة سيدفعون الثمن، هم وليس فقط حزب الله"، وفي الوقت نفسه جاء المراسل العسكري للقناة الثانية ليشرح حجم التهديد وعدد الصواريخ ودقتها وحجم رأسها الحربي؛ هذه الحملة المنظمة سبقت زيارة نتنياهو لموسكو.
أما نتنياهو فصرح بعد لقائه بوتين "أوضحت لبوتين أن هذا اللقاء يتم فيما بلغ السيل الزبى، وإذا ما لم تصد عملية ترسخ إيران في سوريا من تلقاء نفسها فإننا سنصدها، عمليًا، يمكن القول بأننا نعمل منذ الآن على صدها. توجد مصانع صواريخ في لبنان في مراحل التأسيس، فتهديد السلاح الدقيق من لبنان على إسرائيل هو تهديد خطير لن تقبل به إسرائيل، وهنا أيضًا سنعمل إذا ما احتجنا للعمل".
إسرائيل تعتقد أنها حسمت التهديدات العربية المتمثلة بالتهديدات الكلاسيكية من قبل بعض دول الطوق وجزء كبير من الدول العربية التي ليس فقط أنها سلمت بالوجود الإسرائيلي، بل وتتطلع للتعاون معها كدولة عظمى إقليمية، وتعتقد بأنها تمتلك فرصة لحسم التهديد الفلسطيني أو على الأقل لتحويله إلى تهديد ضعيف وغير مؤثر، لكنها بالمقابل تشعر بأنها في صراع مع الوقت أمام تهديد ينمو ويتعاظم، وقد يتحول خلال عقد إلى تهديد استراتيجي واقعي، يتمثل في ما نسميه بمحور المقاومة، وعلى الأخص المتواجد الآن في سوريا ولبنان، المسنود بالقوة الإيرانية والتطلعات الإيرانية لأن تتحول إلى قوة إقليمية ممتلكة للسلاح النووي والنفوذ الجغرافي وترسانات الصواريخ الموجهة لقلب تل أبيب، والجيوش الشعبية المنتشرة على حدودها الشمالية.
بالنسبة لإسرائيل فإن التهديد الشمالي لا يعتبر اليوم تهديدًا حقيقيًا داهمًا، لكنهم قلقون إلى حد الفزع من أن يتحول مع مرور الوقت إلى واقع لا يمكن عندها إلا التعايش معه وأخذه على محمل الجدية والإذعان لبعض شروط ومتطلبات التوصل إلى تسوية معه، الأمر الذي يفرض على تل أبيب التفكير بعمل كل ما يمكن للتخلص منه وهو لا زال في بداياته، وجعل تعاظمه وتطوره مكلفًا وصعبًا وغير مجدٍ، حتى لو كان ذلك بثمن كبير.
ولأنها تدرك ان أي تصعيد عدواني في الشمال سيكلفها الكثير، فإنها تفضل اللجوء أولًا للتهديد والتحذير المترافق مع قصف متزايد، عملًا بمبدأ "جز العشب" أولًا باول، لكنها تدرك ان قصفها لن يستطيع ان يوقف مسيرة التسلح والإعداد، ويبقى خيارها الأول التهديد وتسليط الضوء على ما تمسيه بمهددات استقرار الشرق الأوسط، وفي سبيل أخذ تهديداتها على محمل الجد فهي تصعد خطابها وتصعد لأعلى الشجرة، وهي بذلك تحقق ثلاثة أهداف؛ الأول: نقل رسائلها بخطورة الموقف إلى روسيا، وعبرها إلى إيران وحزب الله وسوريا، الثاني: تهيئة الجبهة الداخلية وخلق إجماع إسرائيلي بتبني خيارات نتنياهو التصعيدية، ولفت الأنظار عن قضايا السجال الداخلي، وفرض أجواء التخويف وأولويات الأمن على أجندة السجال الداخلي، والثالث: كسب الشرعية لأي عدوان محتمل.
والسؤال الأكثر حضورًا الآن: ما هي خيارات إسرائيل في حال لم يتم الاستجابة للمطالب والتهديدات الإسرائيلية؟ وكيف يمكن لحكومة نتنياهو النزول عن الشجرة العالية التي صعدت إلى قمتها؟، الأمر الذي يجعل خيار التصعيد خيارًا حاضرًا بقوة، ويتحول إلى سيناريو واقعي ومحتمل في الأشهر القريبة القادمة.