كادت الخلافات السياسية في الايام الاخيرة تطغى على التهديدات الاسرائيلية. لكن حجم هذه المخاطر التي شغلت الاجهزة الامنية والجيش، أسهم في إعادة إطلاق مساحة التهدئة
حين ألغي اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، الإثنين الفائت، لم تكن ثمة شكوك في أن أسباب الالغاء سياسية، وان الخلاف بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل أطاح الاجتماع. لكن لم يسأل احد من المعنيين عن سبب الاجتماع أصلاً، وعن مصير المواضيع المطروحة عليه، وما هي التحديات الامنية الناجمة عن التوتر السياسي الراهن؟
حين وقعت أحداث اليومين الماضيين، وتنقل المحتجون على كلام باسيل من شارع الى آخر، ومن منطقة ميرنا الشالوحي الى الحدت، وارتفعت حدة المواجهة بين تيارين، لم يرَ أحد من المعنيين وجوب انعقاد مجلس وزراء طارئ، رغم تعطله بسبب الازمة السياسية، من أجل سحب فتيل الفتنة الداخلية. فما حصل بالمعيار الامني خطير بخطورة الخلاف السياسي الذي يرخي بثقله أمنياً على البلاد، ان لم يعالج بروية وهدوء، خصوصاً ان لبنان مقبل على مؤتمرات دولية لطلب مساعدات ودعم للجيش والقوى الامنية، والمؤتمر الاقتصادي الدولي، وعلى استقبال رؤساء دول ووفود دولية معنية باستقراره. فكيف يمكن ان يقدم على كل ذلك، فيما بدا وضعه الامني الداخلي وكأنه يعود سنوات طويلة الى الوراء؟
كان الجيش اللبناني المعني باجتماع المجلس الاعلى للدفاع حريصاً على عقده لأسباب تتعلق بقضايا حساسة لا علاقة لها بأي توترات داخلية، وهي التي أسهمت في شكل اساسي في اعادة تحريك الاتصالات السياسية في الساعات الاخيرة. يكمن التحدي بالنسبة الى الجيش في قضيتين تتعلقان بإسرائيل: الانتهاك المستمر للخط الازرق، في اطار عملية بناء جدار اسرائيلي على طول الحدود مع لبنان، وهذا الامر كان محل متابعة للجيش في شكل حثيث، ويتابعه عبر القنوات المختصة. وكان حجم هذا الخطر عالياً، لأنه يمكن في اي لحظة ان يتطور الى مواجهات مباشرة نتيجة التعديات الاسرائيلية، قبل ان تنفجر القضية الثانية المتعلقة بحق لبنان في البلوك النفطي رقم 9 والتهديدات الاسرائيلية. وهذان الخطران مرتفعان الى الحد الذي يولي الجيش اهمية قصوى لهما وتخصيص جهد كبير واجهزة امنية لمتابعتهما. ومن اجل ذلك لم يكن ممكناً ترك تداعيات التوتر السياسي الحالي والخلافات الداخلية تؤثر على مسار مصيري بالنسبة الى لبنان، في صراعه مع اسرائيل. فكيف يمكن في ظل التهديدات الاسرائيلية تعليق أعمال المجلس الاعلى للدفاع، خشية انفجار الخلاف الداخلي على طاولته، كما احتمالات نقل الخلافات الى مجلس الوزراء، في حين ان الجيش يحتاج الى مظلة سياسية وقرار وطني جامع يتعلق بما تقوم به اسرائيل على مستوى عملياتها على الحدود البرية والبحرية، فضلاً عن التسلل المتمادي لتنفيذ عمليات تفجيرية كما حصل في صيدا، وأعمال تجسسية داخل لبنان.
ولم يكن سهلاً على المتابعين رؤية السفير الفرنسي برونو فوشيه يجول على الحدود لتفقد الخط الازرق، وتتوالى الاتصالات الديبلوماسية للاستفهام عن الخروقات الاسرائيلية وبناء الجدار، فيما لبنان يغرق في الخلافات الداخلية، علماً بأن مستوى الخطرين، اللذين انتبهت اليهما القوى السياسية لاحقاً وعبّرت من مخاوفها منهما، مرتفع ويحتاج الى إجماع سياسي كامل. فأي انتهاك عملاني متطور، يعني أن الجيش مضطر الى الرد على المستوى نفسه، وهذا يحتاج الى أرضية سياسية هادئة ولملمة الصفوف الداخلية، علماً بأن الجيش لا يواجه تحديات تقتصر على الخروقات الاسرائيلية. فالتطورات السورية الاخيرة أسهمت في ارتفاع المحاذير الامنية من ازدياد عمليات التسلل الحدودية لعناصر من تنظيمات ارهابية، الامر الذي يكلف الاجهزة جهداً مضاعفاً وأسهم في ارتفاع التوقيفات الامنية لديها.
كل هذا في كفة، وما حصل خلال الايام الاخيرة في كفة، لأن ما جرى كان كفيلاً باستنزاف الجيش وإغراقه في متاهات الوضع الامني الداخلي. حاول الجيش منذ اللحظات الاولى احتواء الموقف بأقل الاضرار الممكنة، أي بطريقة استيعاب الوضع والمتظاهرين على الارض، وكانت التعليمات واضحة بضرورة تهدئة الوضع والتزام ضبط النفس والفصل بين المتظاهرين والفريق الآخر، والمراكز التي يتعرضون لها. تبلغ الجيش من المسؤولين السياسيين، لا سيما من جانب حركة أمل، رفع الغطاء عن اي مخل بالامن، تكثفت الاتصالات في اليومين الاخيرين لحصر تداعيات النزول الى الارض وعدم تمدد المتظاهرين الى مناطق حساسة ومراكز حزبية. لكن الجيش لم يكن في وارد تنفيذ عملية انتشار مسبقة على الارض، وكأنه يرسم خطوط تماس بين مناطق معينة أو يستنفر عصبيات ما. لا في الامن ولا في السياسة يمكن ان يكون هذا الامر مقبولاً. لذا، يمكن الحديث عن ان الجيش تحسب لأي أعمال شغب، مستنفراً أجهزته للتدخل وقمع التعديات، وتاركاً المعالجة الاساسية للاتصالات السياسية، يقيناً منه بأنه بقدر ما تنجح التهدئة السياسية ينحسر التوتر الامني، علماً بأن الجيش يعي أن أي تظاهرة مرخصة أو غير مرخصة يمكن ان تشهد حالة فلتان واطلاق النار او تكسير او وقوع اصابات، فكيف الحال في تنقل مجموعات من المتظاهرين عبر دراجات نارية في أزقة لا يمكن ان تدخلها سيارة، يضطر الجيش بأجهزته العسكرية والاستخباراتية الى ملاحقتهم. وهذا الامر شغل بال القوى الامنية، لأنها كانت حريصة على الوجود على الارض، عملانياً واستخباراتياً، بقدر حرصها على إطلاق مروحة اتصالات سياسية وأمنية لمنع الانزلاق الى أي حدث خاطئ كان يمكن ان يتطور الى فتنة واسعة.
وفي وقت انحسر منسوب التوتر نتيجة البيانات السياسية والاتصالات التي خلقت أجواءً مريحة، الا أن الشكوك لا تزال تخيّم على الاطار السياسي العام، لان ما جرى كان ممكناً تفاديه منذ اللحظة الاولى، وأي تهدئة من دون عناصر متكاملة للحل، تعني أن أي خلاف جديد، ولو على تعيين موظف، سيعيد التوتر الى الشارع. وليس في كل مرة تسلم الجرة.