عاد الداخل الى رشده، وطوى الغيمة الداكنة التي ظللته اخيراً، ودخل «التيار الوطني الحر» وحركة «أمل» في وقف إطلاق نار سياسي، على طريق إنهاء ذيول ما حصل على الارض واللغة الصدامية التي تبادلاها على المنابر. ودلّ مشهد شبك الأيدي بين «التيار» والثنائي الشيعي في الحدث أمس، على نيّات مشتركة بتبريد القلوب وتنفيس الاحتقان. واكد انّ المعادلة الداخلية القائمة على الوحدة والتلاقي والعيش المشترك، هي التي ينبغي ان تتقدّم على كل ما عداها، وأن يُنأى بها عن أي مؤثرات سلبية. في الموازاة، واصلت اسرائيل بثّ سمومها في اتجاه لبنان، عبر استمرار محاولات قرصنة نفطه، بالتوازي مع تركيز صحافتها تجاه «حزب الله» والتحذير من الخطر الذي يشكّله امتلاكه لصواريخ دقيقة. ويأتي ذلك على نحو متناغم مع مواصلة الضغط الاميركي على الحزب الذي ترجم بالأمس في إصدار وزارة الخزانة الاميركية سلة جديدة من العقوبات على أفراده.
في وقت لم تنطفىء بعد نار الشريط المسرّب للكلام الهجومي لوزير الخارجية جبران باسيل على رئيس مجلس النواب نبيه بري، سقط على المشهد الداخلي تسجيل من نوع آخر، ظهر في مقطع من مقابلة لباسيل مع مجلة «ماغازين» الفرنسية تناول فيها «حزب الله» بالانتقاد والاتهامات، حيث ورد في هذا المقطع «انّ باسيل اعتبر انّ الانتكاسات التي وقعت مع بري «تركت بصماتها بوضوح على العلاقة مع «حزب الله»، ولكن من دون التشكيك في التحالف الاستراتيجي الذي صمد أمام العديد من المصاعب».

واعتبر أنّ الحزب «يأخذ خيارات لا تخدم مصالح الدولة اللبنانية في الموضوع الداخلي، وإن كل لبنان يدفع الثمن»، وأنّ في وثيقة التفاهم مع الحزب «بندا أساسيا يتعلق ببناء الدولة، ولكن ولسوء الحظ هذه النقطة لم تطبّق بحجة الاعتبارات الاستراتيجية».

«حزب الله»

وتوقف الحزب عند هذا الكلام، ولكن من دون ان يُبدي موقفاً علنياً. واكدت معلومات موثوقة لـ»الجمهورية» انّ تواصلاً تمّ بين الحزب و»التيار» على خلفية هذا الكلام لاستيضاح موجباته وخلفياته. وعكس مسؤول في الحزب عدم ارتياح الى هذا الكلام، وفضّل عدم الادلاء بموقف، الّا انه قال لـ»الجمهورية»: «نحاول ان نستوضِح الامور والوقوف على دقة ما قيل، وأعتقد انّ هناك توضيحات».

وسارع المكتب الاعلامي لباسيل الى إصدار بيان توضيحي جاء فيه: «تتناقل وسائل الاعلام كلاماً محرّفاً ومجتَزأ للوزير باسيل في حديثه الى مجلة «الماغازين» الناطقة باللغة الفرنسية، في موضوع العلاقة مع «حزب الله»، والحقيقة انّ ما قاله الوزير باسيل انّ علاقتنا مع «حزب الله» استراتيجية وباقية وهي كسرت الرقم القياسي في التفاهمات السياسية في لبنان، وأننا على نفس الموجة في القضايا الاستراتيجية.

امّا في الموضوع الداخلي فقال باسيل «إنه يأسف لوجود بعض الاختلافات في المواضيع الداخلية، وثمّة قرارات يتخذها الحزب في الموضوع الداخلي لا تخدم الدولة، وهذا ما يجعل لبنان يدفع الثمن، وأنّ بنداً اساسياً هو بناء الدولة في وثيقة التفاهم لا يطبّق بحجة قضايا السياسة الخارجية». وعليه، يؤكد باسيل انه مهما حاول اليائسون تخريب العلاقة الاستراتيجية مع «حزب الله» فإنهم لن ينجحوا».

وقالت اوساط مراقبة لـ«الجمهورية»: «اذا كان فيديو «محمرش» تسريباً وادى الى توتر علاقة «التيار» وعون مع «امل» وبري، فكلام باسيل لـ«ماغازين» هو تصريح رسمي من شأنه ان يوتّر العلاقة بين «التيار» و«حزب الله»، وبالتالي مع أمينه العام السيد حسن نصرالله»، مشيرة الى انّ توضيح مكتب باسيل «يؤكد مضمون الكلام الذي قاله لـ«الماغازين».

وبحسب الاوساط نفسها فـ«إنّ البلد دخل في مرحلة جديدة قد يرافقها تغيير في المواقف في ضوء التطورات التي تجري في المنطقة او التي ستشهدها المنطقة قريباً. ويبقى السؤال الآن: كيف ستنتهي الامور»؟

جمر تحت الرماد

من جهة ثانية، وعلى رغم الجو الهادىء الذي أرخاه اتصال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ببري، والذي عزّزه «لقاء الأحبة» في الحدث وما تخلله من مواقف بين «التيار» والثنائي الشيعي وتأكيد على الاستقرار والوحدة الداخلية والعيش المشترك، الّا انّ جمر الخلافات السياسية ما يزال تحت الرماد، وثمّة إشارة بالغة الدلالة تؤكد انّ القلوب السياسية ما زالت «مِليانة»، وتَجلّت في غياب باسيل عن مؤتمر الطاقة الاغترابية في ابيدجان، واكتفائه بالحضور عبر الشاشة مُطلقاً سلسلة مواقف استهَلّها بالاعتذار من عدم الحضور شخصياً لخشيته من تعرّض المؤتمر «للأذى نتيجة أعمال تخريبية قد تقع وفق المعلومات التي ترد إلينا، الخشية ليست من التعرّض لسلامتي الشخصية وهو أمر أنا مُعتاد عليه، بل على أشخاصكم، وهو ما لا أرضى أن يسبّبه وجودي لكم. والمهم أنّ المؤتمر ينعقد اليوم من دون أن يتمكن أحد من منعه، وليس الأساس حضوري أنا».

واستذكَر باسيل كلاماً للإمام موسى الصدر يقول فيه: «طالما أنّ التهجّم عليّ شخصياً لا يمسّ سلامة المسيرة بشيء، فلا داعي للتشنج بل سيبقى وقتي في بذل الجديد والمزيد من الخدمات فذلك حسبي… وحسبي الله ونعم الوكيل». وقال: «لبنانيتنا في فرادتنا بالعيش معاً شركاء متناصفين، وفي فهم شعور الآخر من دون أن نتفهّم لزاماً كيفية تصرفه. للأسف اننا نجرح شعور بعضنا البعض أحياناً، لكن يبقى الأمل في ألّا يمسّ تصرّفنا بوجود الآخر.

كما أنّ لبنانيتنا هي في تساوينا مع بعضنا، فنحن كلنا بشر سواسية، لا آلهة بيننا ولا يجوز تسلّط أحد منّا على الآخر، وطبعاً لا لتسلّط أيّ منّا على القانون والدستور، وقد جرَّب كل منّا التسَلّط الأحادي على الآخرين ففشل، فلا يجربنّ أحد تسلّطاً جديداً محكوماً بفشل جديد».

أضاف: «لبنانيتنا تفرض علينا أن نبني دولة لا خوَّة فيها بل أخوَة في المساواة والفرص، لا تزلّم فيها بل رجالات دولة، لا استعلاء فيها إلّا عزة الوطن علينا، لا دكاكين فيها بل مؤسسات في خدمة المواطن المقيم والمنتشر، ولا رعايا فيها بل مواطنون متعادلون ومتشاركون في صنع مستقبل وطنهم. نعتذر منكم على كل ما لم نستطع تحقيقه لكم بعد، ولكن من يعتذر منكم ومنّا على ما سبق من سنين ضائعة؟ واذا كان الاعتذار هو لكم فالمغفرة لا تطلب إلّا من الله».

أسبوع مزدحم

من جهة ثانية، تحركت مفاصل البلد على وقع التفاهم الرئاسي الذي أرخى هدوءاً طوى صفحة الهجوم والتوتر والتحرك في الشارع، فيما يستعد البلد للدخول في أسبوع مزدحم بالتطورات، بدءاً باجتماع الاثنين للجنة العسكرية الثلاثية المشتركة بين لبنان واسرائيل وقيادة «اليونيفيل» للبحث في موضوع الجدار الذي تنوي إسرائيل بناؤه في المنطقة المتنازَع عليها، وينطوي على نيّات إسرائيلية بقرصنة النفط اللبناني ربطاً بالجدار.

ويليه الثلثاء الاجتماع الرئاسي الثلاثي في القصر الجمهوري بين عون وبري ورئيس الحكومة سعد الحريري لمناقشة القضايا السياسية ونتائج اجتماع اللجنة العسكرية، ثم الاربعاء اجتماع مجلس الدفاع الأعلى للبحث في تهديدات اسرائيل.

وبَدا انّ الهدوء الداخلي كان مُريحاً للمستويات السياسية والرسمية. فعون، وكما نقل عنه زوّاره، اكد أنه تمّ أخذ العبرة ممّا حصل، وانّ الامور عادت الى ما كانت عليه وتَمّت تسوية الاوضاع.

ودعا الى حل الخلافات ضمن الاجهزة المختصة والمؤسسات، وليس في الشارع. ولاقاه بري بتأكيده انه «مهما حصل من مشاكل يبقى أن نحافظ دائماً على الأمن والاستقرار لمواجهة التحديات الكبيرة»، فيما اكد الحريري انّ ما حصل خلال الأسبوع الماضي هو درس للجميع: درس أنّ الكلام العالي فوق السطوح لا يصنع حلاً بل يخلق تشنّجاً سياسياً، ودرس أنّ استخدام السلاح لِبَت الخلافات السياسية لا يخلق إلّا فتنة، ودرس أيضاً أنّ النزول إلى الشارع وإقفال الطرقات وحرق الدواليب لا يوصِل لنتيجة».

وقال مصدر قريب من بري لـ»الجمهورية»: «ما نريده دائماً هو الاستقرار، وسنعمل في هذا الاتجاه».

وحول ما أوجَب الهدوء قال: «كل ما جرى انّ اتصالاً حصل وأدّى الى ما أدى اليه من كلام ودي واتفاق على لقاء بين الرئيسين، ما انعكس ايجاباً على الجو العام. الّا انّ ما حصل لا يعني انّ الخلاف السياسي انتهى، ما زلنا على مواقفنا من كل الامور». وأكد «ان لا مصلحة لأحد بتعطيل الحكومة.

ولم نقل إننا سنعطّلها، بل نريد ان تستمر خصوصاً اننا قادمون على الانتخابات التي تتطلّب إدارة لإجرائها، فضلاً عن انّ بقاءها يوحي بالاطمئنان. والاساس في الحفاظ عليها هو قطع الطريق على بعض الخارج الذي يريد ذلك».

ولم يَنف المصدر او يؤكّد مشاركة وزراء «أمل» في جلسة مجلس الوزراء إذا ما دعا اليها الحريري، وقال: «سنتّخذ القرار في حينه».

العقوبات

وفي هذه الاجواء، أعلنت الخزانة الاميركية انها فرضت عقوبات على 6 أفراد و7 كيانات (شركات لبنانية في افريقيا)، بموجب قوانين العقوبات المالية على «حزب الله»، «لعملهم لصالح عضو ومموّل «حزب الله» أدهم طباجة، او لصالح شركته «الانماء للهندسة والمقاولات». امّا المستهدفون بحسب ما تَردّد، فهم: جهاد محمد قانصو (المدير المالي لشركة «الإنماء»)، علي محمد قانصوه، عصام احمد سعد وهو مدير في شركة «الإنماء» ويمتلك حصة صغيرة في الشركة، نبيل محمود عساف (مدير المشتريات ومساهم بحصّة صغيرة في «الإنماء»)، عبد اللطيف سعد وهو مدير فرع «الإنماء» في بغداد، ومحمد بدر الدين وهو مدير فرع «الإنماء» في البصرة بالعراق، واتّهمه بيان الخزانة بأنه تعامل مع مسؤولين عن تبييض أموال الحزب.

وبموجب العقوبات الجديدة، «سيتمّ تجميد كل ممتلكات ومصالح هؤلاء الأشخاص والشركات في أميركا، ويُمنع على كل الأميركيين التعامل مع المشمولين بالعقوبات». واتهم البيان الحزب بأنه «منظمة إرهابية مسؤولة عن مقتل المئات من الأميركيين، وهي أيضاً الوسيلة الرئيسية لإيران لزعزعة الحكومات العربية الشرعية عبر الشرق الأوسط».

وقال أمين سر الخزانة ستيفن منوشين انّ الإدارة الأميركية عازمة على فضح وتفكيك شبكات الحزب في الشرق الأوسط وغرب افريقيا، «والتي يستخدمها لتمويل عملياته غير المشروعة»، وانّ «الخزانة ستستمر في معاقبة الحزب وتواجده في النظام المالي العالمي، ولن نتوانى عن تحديد وفضح وتفكيك أنظمة تمويله دولياً».

المصدر: الجمهورية