لم تقتصر مفاعيل الإنجاز السوري الذي تحقق بإسقاط الطائرة الإسرائيلية على سوريا وحدها. في لبنان، أخذ الاحتفاء بالإنجاز بعداً استراتيجياً: هي مرحلة جديدة من الردع، تزيد من مناعة البلد في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المستمرة، وتبعد الحرب أكثر وأكثر، في ظل يقين إسرائيلي بأن محور المقاومة صار أكثر صلابة وقدرة على المواجهة وتحقيق الإنجازات
ليس أبلغ دلالة على المعادلات الجديدة التي تتثبت في المنطقة سوى الاحتفالات التي عمّت الحدود الجنوبية للبنان مقابل الشلل التام الذي سيطر على المستعمرات الإسرائيلية واقترن بإطلاق صفارات الإنذار وفتح الملاجئ في مستوطنات الجليل الفلسطيني الأعلى. ولعل بقايا صواريخ أرض جو السورية التي سقطت في جنوب البقاع اللبناني ومنطقة حاصبيا، خير دليل أيضاً على ترابط الساحات، وخصوصاً أن إسرائيل نفذت معظم اعتداءاتها الجوية على الأراضي السورية في السنتين الأخيرتين من الأجواء اللبنانية.
المشهد في الجنوب اللبناني عمره من عمر الانتصار عام 2006، لكنه يشهد اليوم فصله الأحدث مع توسيع معادلة الردع لتشمل سوريا قولاً وفعلاً. فإسقاط الدفاعات الجوية السورية للطائرة الإسرائيلية يوم السبت الماضي، بدا تكريساً لمعادلة «الجبهة الواحدة» التي تسعى إسرائيل إلى منعها منذ عام 2011 من دون تحقيق أي نجاح.
أما حزب الله، فلم يترك في بيانه مجالاً للشك في دلالات الإنجاز السوري. قال بشكل قاطع إن ذلك يعني «سقوط المعادلات القديمة»، معلناً «بداية مرحلة استراتيجية جديدة تضع حداً لاستباحة الأجواء والأراضي السورية».
المعادلة القائمة، وخصوصاً بعد حرب تموز 2006 كان عنوانها تفوّق إسرائيل في الجو، مقابل قدرة المقاومة على مواجهتها في البر، على ما أثبتت تجربة حرب تموز (ناهيك عن تدمير بارجة عسكرية في عرض البحر قبالة بيروت). منذ ما بعد تلك الحرب، كان الهاجس الإسرائيلي منصبّاً على منع المقاومة من تطوير دفاعاتها الجوية. ذلك كان لغزاً كبيراً، وبقي كذلك، وصولاً إلى مقابلة السيد حسن نصرالله الأخيرة مع قناة «الميادين»، إذ زاد هذا الغموض بتأكيده أنه لن يتكلم بموضوع سلاح الجو.
يوم السبت المنصرم، كانت الإجابة صريحة. المقاومة جاهزة لمواجهة التفوق الجوي لإسرائيل. هنا ليس المهم مَن مِن أطراف محور المقاومة هو الذي حقق هذا الإنجاز. على الأقل، هكذا تتعامل هذه الأطراف مع خسائرها وإنجازاتها: الإنجاز للجميع والخسارة للجميع، وهكذا تتعامل إسرائيل مع أي تطور على الحدود الشمالية لفلسطين.
منذ دخول سوريا في أزمتها الطويلة، كانت إسرائيل تتعمد تركيز اعتداءاتها على أراضيها، بصرف النظر إن كان الهدف المقاومة أو أهدافاً عسكرية سورية. كانت تدرك أنه ضمن معادلة الردع، فإن أي اعتداء على لبنان يكون الرد عليه حكماً... ومن لبنان، فيما الرد على الاعتداءات على سوريا، كان يأخذ شكل التحذير الذي غالباً ما ينتهي من دون رد، لأسباب عديدة تتعلق بأولويات الحرب الداخلية أو ربما بتعهدات روسية لإسرائيل تضمن لها تجنب الرد السوري، كما كان يردد بعض الإعلام الغربي والإسرائيلي.
وبالرغم من كثرة التحليلات حول ما إذا كان الرد السوري قد حظي بغطاء روسي، إلا أن ذلك لا يلغي أن إسقاط الطائرة الإسرائيلية أدى إلى إسقاط قواعد الاشتباك القديمة، على ما أعلن قائد القوات الحليفة في سوريا. وعلى قاعدة «وحدة المحور»، صار الرد على أي اعتداء حتمياً، وبصرف النظر عن مكانه، أو عن احتمالات نجاحه. هذه القاعدة، أعاد نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم تأكيدها أمس. إذ اعتبر أنه «بإسقاط الطائرة الإسرائيلية تكون قاعدة الاشتباك التي تبنى على الاعتداء من دون رد قد سقطت، وبالتالي لا إمكانية لإسرائيل بأن تستخدم بعد اليوم هذه القاعدة في الاشتباك وتتجول كما تريد لتحقق أهدافها».
ذلك يعني أن الإسرائيلي سيفكر، الآن ومستقبلا، ألف مرة قبل القيام بعمل ما. وهو للمناسبة، عندما أغار على مواقع سورية رداً على إسقاط طائرته، كان بارزاً عدم تحليقه فوق سوريا ولا فوق لبنان، كما فعل قبل إسقاط الطائرة، بل اكتفى بإطلاق صواريخه من فوق فلسطين المحتلة.
وفي سياق تثبيت معادلة المواجهة من قبل لبنان الرسمي، فقد أتى بيان وزارة الخارجية الذي دان «الغارات التي تعرضت لها الجمهورية العربية السورية»، وأكد على «حق الدفاع المشروع على أي اعتداء إسرائيلي»، ليستكمل الموقف اللبناني الموحد الذي تجسد في لقاء الرؤساء الثلاثة كما في انعقاد المجلس الأعلى للدفاع، الذي رسم سقفاً عالياً للموقف اللبناني المتضامن والمؤكد على إعطاء الجيش أوامر واضحة في الرد على أي اعتداء إسرائيلي لبحر لبنان وبره. أضف إلى أن الإنجاز السوري أعطى للبنان أرباحاً صافية من دون إسقاط معادلة النأي بالنفس التي أعادت الرئيس سعد الحريري شكلاً إلى السرايا الحكومية. فلا إسقاط الطائرة جاء من لبنان، ولا الطائرة سقطت في لبنان ولا طياراها. والربح يعود أيضاً إلى فرض قواعد ردعية سيستفيد منها لبنان حكماً، في المرحلة المقبلة، إن كان في أي تسوية لاحقة لملف المنطقة الاقتصادية الخالصة، أو حتى في إطار الشكاوى اللبنانية للأمم المتحدة. إذ يتوقع أن يتبع الخطوة الأولى المتعلقة بطلب لبنان إدانة إسرائيل وتحذيرها من مغبة استخدامها الأجواء اللبنانية لشن هجمات على سوريا، خطوة أخرى تتعلق بتحذير إسرائيل من خرق الأجواء اللبنانية بالمطلق. ثم من يدري، ففي إسرائيل تحذير من احتمال أن ينصب حزب الله فخاً للطائرات في لبنان، في إطار حماية الأجواء اللبنانية!