بين عامَي 1982 و1992، عقد من الزمن عاشه عماد مغنية منخرطاً في مقاومة استثنائية، عشر سنوات فعل فيها الكثير الكثير.
وبين عامَي 1993 و1998، نصف عقد من الزمن، بنى خلاله عماد مغنية عالماً من الأمن والاستخبارات والعمليات النوعية، جعلت يد المقاومة هي الطولى في كل الساحات.
وبين عامَي 1998 و2008، عقد آخر من الزمن، أنجز خلاله عماد مغنية بناء مقاومة، تنجز التحرير وتمنع عودة الاحتلال، وقدم ما لم يتوقعه صديق ولا عدو.
وبين عامَي 2008 و2018، لا يزال إنتاج عماد مغنية يصرف يومياً في كل الجبهات.
ماذا عن العقد المقبل: إنه العقد الذي أفنى عماد مغنية حياته في سبيل تحقيق الهدف الأمثل. داخل مكتبه الكبير، كان الحاج رضوان يستمع إلى السؤال الكيدي الدائم: الى أين تذهب في الحرب مع إسرائيل؟ لم تغب الابتسامة عن وجهه، وهو يقف ليخرج من خزانة لوحة حائط، في رأسها عنوان: إزالة إسرائيل من الوجود!
لم يكن قد مر وقت طويل على انتهاء حرب تموز 2006. إسرائيل غرقت في تحقيقات لجنة فينوغراد لتحديد المسؤوليات عن الهزيمة. والمقاومة انشغلت في ترميم الترسانة العسكرية، وعلى خط مواز، كانت المراجعة للوقائع التفصيلية ليوميات الحرب.
لم ينم «الحاج» وهو يبحث ويعمل وينجز. وفي شرحه للاستراتيجية يقول: جيش العدو عبارة عن طائرة حربية، واستخبارات عسكرية، وطائرة مروحية ودبابة وجنود. ومهمتنا عرقلة عمل الطائرة الحربية، وإصابة استخبارات العدو بالعمى، وامتلاك سلاح يخرج المروحيات من الميدان، وصواريخ خاصة تنهي أسطورة مدرعات العدو. عندها، لن يبقى أمامنا سوى الجنود، ولتقع المواجهة!
خلال أسابيع المواجهات العنيفة مع دبابات العدو، كان الرئيس بشار الأسد قد أمر هيئة أركان جيشه بفتح جميع مخازن الجيش، وطلب الى العميد الشهيد محمد سليمان قيادة أكبر عملية نقل للأسلحة النوعية الى مجموعات المقاومة في لبنان، بما فيها ترسانة صاروخية لم تستخدمها المقاومة خلال الحرب، وكان بمقدورها قصف تل أبيب، وربما ما هو أبعد منها جنوباً. مع انتهاء الحرب، لم تقفل مخازن الجيش السوري، بل رفع مستوى التنسيق الى درجات غير مسبوقة. لم يكن الأسد يتصرف كداعم أو نصير، بل كشريك كامل في المعركة. لم يكن يهمه سوى تحصين المقاومة بكل ما تحتاج إليه، وليس عنده خطوط حمر أو صفر، بل قرر عن وعي أن ما فعلته المقاومة في لبنان عام 2006 كان مفتاح التغيير الجوهري في الصراع مع العدو.
قد يكون من غير الممكن الحديث اليوم عن النقاشات والتجارب والأعمال التي جرت في سوريا خلال السنوات التي تلت حرب تموز. لكن، ثمة خلاصة أكيدة تتصل بكيفية تحديد عناصر القوة عند العدو، والعمل على معالجتها بحكمة وقوة وإصرار. ولهذه القواعد روايتها:
البساطة، عنوان مدرسة الحاج رضوان في فهم المفيد والقيام باللازم. لا يحتاج الأمر الى منظّرين، بل الى وضوح في القراءة، وتحديد دقيق للهدف، ثم العمل على تحقيقه. وبناءً عليه، طرح السؤال مباشرة: بماذا يتميز جيش العدو؟
1 - سلاح الجو
إضافة الى كون طائرات العدو تمسح الأجواء، فإن طيران العدو أفضل الوسائل التي تحمل صواريخ تزن في بعض الأحيان طناً من المتفجرات، وتصيب مبنى بعينه. ويتاح لها المناورة والإفلات. كما أن الطائرة تسمح بتوفير خدمات كبيرة خلال تقدم القوات البرية، أو في التصدي لهجوم العدو. فماذا نفعل في مواجهتها؟
إذا كان صعباً على المقاومة في لبنان أن تمتلك طائرات هجومية من طراز ينافس الطيران الأميركي الموجود في حوزة جيش العدو، فإن تحقيق الهدف عبر ضربات دقيقة ومؤلمة لأهداف العدو يستلزم توفر الوسيلة المناسبة. إنها الترسانة الصاروخية الهائلة والمتنوعة لناحية المديات ولناحية وزن رؤوسها المتفجرة، الموجودة اليوم في حوزة المقاومة، والقادرة على تدمير مدن بكاملها في إسرائيل، وتحقيق إصابات نقطوية، مثل مبنى أو منشأة أو مرفق ما.
إن تملك المقاومة هذه الوسيلة يعني أنها وجدت ما يحقق توازناً مع النتيجة العملانية الأولى لسلاح الجو. ومتى قرر متحاربان عدم الانتحار، فهذا يعني أن إسرائيل، مهما كان لديها من طائرات أو صواريخ ذكية، تعرف أنها ستدفع ثمناً أكثر قساوة، كون عدوها يمتلك ترسانة صاروخية هائلة تحقق الهدف نفسه.
صار بمقدور الحاج رضوان القول: لدينا السلاح الذي يوازي بفعاليته قدرة سلاح الجو عند العدو.
2 - سلاح الاستخبارات
ليس من دولة لديها هذا الكم الهائل من الموارد المالية والبشرية لأجل عمل الاستخبارات. وللعدو خبرة طويلة في تحقيق الاختراقات، ما جعل النظرية المقابلة في مدرسة عماد مغنية تقوم تحت عنوان «إصابة العدو بالعمى»، ما يفرض اعتماد سرية غير مسبوقة في العمل. يكفي، مثلاً، أن فريق الحاج رضوان أقام منازل داخل جبال كبيرة، وتحت الأرض، ولم يترك لأحد، جار أو عابر سبيل أو عميل أو عين العدو، أن يلحظ أي شيء. لم يترك أثراً من تربة أو شجر أو تلة أو هضبة. وعندما اكتشف العدو بعض المحميات خلال حرب تموز، لم تكن الصدمة بما أنجز فقط، بل في التعرف إلى جانب آخر من شخصية المقاومة الأمنية.
لكن ما تخشاه إسرائيل يتمثل في كون المقاومة حققت ما قال الحاج رضوان إنه ممكن، ويجب أن يكون أمراً واقعاً، وهو امتلاك المقاومة أجهزة استخبارات بشرية وتقنية غاية في التطور، تسمح لها بمسح الأهداف الاستراتيجية للعدو داخل فلسطين المحتلة. وقد يصعب على الإسرائيليين فهم الوضع. لكن، على سكان بعض أحياء تل أبيب التفكر في أن حزب الله يعرف بالضبط ما يوجد في شقق ومتاجر يعتقد هؤلاء السكان أنها تؤوي عائلة مسالمة أو شركة خدمات تجارية.
إن لدى المقاومة في لبنان اليوم بنكاً من الأهداف، تطلّب جمعه سنوات طويلة من العمل، وموارد بشرية ومالية هائلة أيضاً. لكنه ليس بنكاً للمعلومات فقط، بل صار نقاطاً محددة على رؤوس صواريخ سيكون من العبث إن فكر العدو بقدرته على تدميرها. وهي أهداف ستلقي بنصف سكان إسرائيل في العراء بحثاً عن ملجأ غير موجود، وستطيح جهود سبعين عاماً من البناء في دولة قادرة وعصرية وحديثة.
3 - عرقلة عمل الطيران
معالجة تفوّق سلاح الجو عند العدو، تحتاج في عقل عماد مغنية العامل على مساحة 360 درجة، الى البحث عن وسائل إضافية، لتعطيل هذا السلاح بصورة شبه كاملة. وهذا يعني امتلاك منظومة رادارات متطورة تتيح كشف أي حركة لسلاح الجو المعادي، من لحظة انطلاق الطائرات من مخادعها في المطارات العسكرية. وهي منظومة يعرف العدو أنها موجودة ومتاحة في أيدي أعدائه الحقيقيين. كما يوجد في حوزتهم تحديد دقيق لمواقع المطارات العسكرية، وبمقدور زخات متواصلة من الصواريخ الدقيقة تعطيل هذه المطارات. وفوق كل ذلك، هناك سلاح إضافي اسمه الصواريخ المضادة للطائرات التي تعرقل مهمات سلاح الجو المعادي، وتسقط الطائرات أيضاً. وهذا النوع من الصواريخ صار أيضاً متاحاً، وفق المعادلة الراسخة في عقل الإسرائيليين: إن كل ما تصل إليه أيدي إيران من أسلحة حديثة، يعني أنه سلاح في خدمة حلفاء إيران في المنطقة. فكيف إذا قدمت روسيا للجيش السوري ما يحتاج إليه لحماية سيادته براً وبحراً وجواً؟
ماذا حصل فوق سوريا قبل يومين؟
حسماً لنقاش سيطول عند الأغبياء والموتورين والمكابرين، فإن بشار الأسد هو صاحب القرار النهائي في كل ما يحصل على الأراضي السورية. وبشار الأسد جريء الى أبعد مما يعتقد حتى أصدقاؤه. وبشار الأسد لم يكن يوماً ليبتعد عن مهمة المواجهة المباشرة مع العدو. لكن بشار الأسد واقعي وصاحب عقل، ويعرف ترتيب الأولويات. وأكثر من ذلك، يجيد استخدام الدعم الذي يأتيه من هنا أو هناك. وبعد كل التطورات التي شهدتها المعركة الواسعة في وجه العصابات المسلحة في سوريا، لم يكن ليتجاهل أن العدو الأصلي، الأميركي والإسرائيلي، سيضطر إلى الحضور مباشرة هذه المرة، علّه يحقق ما فشل الوكلاء أو العملاء أو المضللون في تحقيقه.
صحيح أن سوريا لا تسعى خلف حرب مع إسرائيل اليوم. وصحيح أكثر أن المعادلات الإقليمية والدولية لا تدفع نحو حرب من هذا النوع. لكن الصحيح أكثر، هو أن الأسد لا يقبل بأن تفرض إسرائيل معادلات تصب نتيجتها في خدمة عملاء العدو، وفي إضعاف الدولة السورية. ولذلك، حرص الأسد منذ سنوات وخلال الأشهر الأخيرة، على تنبيه العدو من أن صبره على الاعتداءات الإسرائيلية بدأ ينفد. ولذلك، كان القرار حاسماً عند الأسد، وعند حلفائه، بأنه آن الأوان لتلقين العدو درساً في سياق حرب لن تتوقف عند ما حصل، لكنه سياق سيفتح الباب أمام معادلات صعبة على الجميع، وعلى العدو بوجه خاص. وهذا القرار الاستراتيجي بالرد استتبع خططاً عملياتية، فيها من التكتيك الواسع لناحية اختيار التوقيت وأدوات الرد بغية تحقيق النتيجة. وهذا ما حصل.
عملياً، أفرط العدو بثقته بنفسه عندما تصرف بأن سوريا لن ترد على الاعتداءات الجوية. وما إن خرج طيران العدو، في مهمة مقررة مسبقاً، أو استدرج إليها ــــ لا فرق ــــ كان في انتظاره فريق يطبق نظرية «الشبكة العنكبوتية»، والله أعلم إن كانت من بقايا المدرسة السوفياتية، والتي تعني تحديد دائرة المدى الذي تتحرك فيه طائرات العدو، ثم تتم تغطيها بوابل من الصواريخ الموجهة، والتي تطلق بغزارة غير تقليدية، ما يرفع احتمال تحقيق إصابة مباشرة في طيران العدو، ولا سيما أن الصواريخ المستخدمة ليست حديثة الطراز، وهو ما حصل فعلاً، ولم تكن النتيجة فقط إسقاط الطائرة العسكرية، بل أدخلت مناطق واسعة من الكيان الصهيوني في حالة ذعر تفرض عادة إجراءات تتسبب بمزيد من الهلع عند الدولة والسكان.
ومع أن الجميع غارق في البحث عن نتائج ما حصل، من المهم طرح سؤال أخير: طالما أن إسرائيل ستواصل عدوانها مستخدمة حدود سوريا الجنوبية أو حدود لبنان الشرقية محطة للقصف، فإن قرار التصدي لها قائم وسيستمر، ما يعني أن احتمال سقوط طائرات إضافية كبير، فماذا ستكون الحال، لو اضطر الطيارون الى الهبوط فوق مناطق على الحدود اللبنانية – السورية، وبوضوح أكبر، فوق مناطق تحت سيطرة حزب الله؟