يدرك سعد الحريري أن ما أخذه في انتخابات 2005 ثم 2009، من أكثرية نيابية موصوفة، لم يُتح له أن يحكم البلد وحده، لذلك، صار يتبنى خطاب الصيغة. لبنان بلد توافقي ولا يحكم إلا بالتوافق، وكل طائفة تملك حق الفيتو سواء أكانت كبيرة أم صغيرة. يسري ذلك على ما يمكن أن تنتجه إنتخابات 2018 بفضل قانون نسبي قد يعطي الأكثرية لخصومه، أو يجعلها متحركة تبعاً للحراك الانتخابي الحاصل والتموضعات المتبدلة

في مؤتمر دافوس الأخير، ذهب سعد الحريري أبعد مما نصحه به واحدٌ من لصيقين بموقعه. الأول، بارع في اجتراح الصفقات ولا يتوخى موقعاً سياسياً. الثاني، يدعي تمرساً سياسياً اكتسبه من إقامته الطويلة في الصيغة اللبنانية خلال الجمهوريتين الأولى والثانية وما بينهما من مسافة حربية، ويغضن طموحاً معلقاً على استثناءات ووقائع سياسية كبرى توازي ما يسعى إليه سراً وخفية. في أنقرة، قفز الحريري إلى الأمام أكثر فأكثر. هناك تطابق إلى حد التشابه مع الموقف التركي من الوضع في سوريا، قائلاً عنه ونظيره بن علي يلدريم: «لا مخرج إلا بحل سياسي يضمن عودة النازحين».

أسقط كلمة «الآمنة» التي كادت تقسم لبنان بعد عودته إلى رئاسة الحكومة إثر انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. تجنب الحديث نهائياً عن مصير الرئيس بشار الأسد أو مستقبله.
ما أطلقه الحريري مع يلدريم من أنقره كان رسالة واضحة إلى السعودية عن قدرته على التمايز معها من دون أن يكون الجحيم قدره المحتوم. أراد إثبات بلوغه سنّ الرشد السياسي، فطلب الدعم التركي لتعزيز الجيش، بينما علقت الرياض ذلك الدعم في أكثر اللحظات الأمنية والعسكرية حراجة خلال حرب لبنان على الإرهاب. الرجل يفعل ما يفعل، لكنه لا يستعدي «مملكة الخير»، بل لتقدم المملكة «الخير» بما يعينه على استعادة ما كانه يوماً قبل أن يتبدد جراء الانخرط في الحرب السورية تخطيطاً ودعماً وتمويلاً، فضلاً عن نقل مقاتلين عبر الأراضي اللبنانية، وقبل عامين من لحاق «حزب الله» به إلى هناك لتحييد لبنان. الأقربون يعرفون ذلك تفصيلاً وفرعاً، لكن موعد البوح به لم يحن بعد، على ما يقول من اضطلع واطلع.
الحريري لم يخلع العباءة السعودية، ولا يريد أن يفعل. كل مناوراته ترمي إلى تعديل تصنيفه بوصفه أقوى الأبناء وليس أفضلهم. احتجازه، ولو كان لأسباب قبلية، فاعلها يزعم حداثة صدم الرئيس الذي كان لحظتها ركناً من أركان تسوية باركتها الرياض. خشيته الكبرى تكمن في الوصول إلى نقطة لا عودة بعدها: التخيير بين جنسية من اثنين: اللبنانية أو السعودية. لذا، إن كل ما يؤتيه شكلاً ومضموناً لا يزال في دائرة الرهان على السعودية وملكها المستقبلي محمد بن سلمان. ما أثار هلعه البث المكثف عبر قناة «العربية» لخبر تظاهر عشرات اللبنانيين الموظفين في شركة «سعودي أوجيه» للمطالبة برواتبهم وتعويضاتهم. استشعر ومعه بعض مستشاريه أن ذلك مقدمة لتأميم ممتلكاته في الرياض على غرار ما حصل مع «مجموعة بن لادن» الأهم والأقوى منه مالاً ونفوذاً وحضوراً.
أحد اللصيقين برئيس الحكومة اقترح عليه تجنب إطلاق المدائح بالسعودية بالتوازي مع الابتعاد عن الاشتباك مع إيران، لأن الأمرين سيضعان لبنان على مسالك متعرجة. الثاني، دعاه إلى التركيز على استعادة موقعيه المالي والسياسي في لبنان وعبره، لأن الرياض لم ترسل أية إشارة إيجابية على طلبه من الإمارات التوسط لإصلاح ذات البين. وبالتالي إن العمل يجب أن ينصبّ على إثبات وتأكيد ما ومن يمثل ليعود ويحتل مكانته ابناً باراً وأولاً على أشقائه في لبنان. وإذا كان الحريري قد بالغ في الاستجابة للنصح، وذلك على غير عادته، فإن أياً من هواجسه لم يتبدد. فالباعث على قلقه ليس التقارير التي دبّجها بعض موظفيه ومن كان يفترض صداقتهم، فهؤلاء استغلهم الوزير السعودي ثامر السبهان الذي سقط ضحية استغلال سمير جعجع له. مكمن القلق الحقيقي هو في إصرار الرياض على موقفها في المضي بالمواجهة مع إيران حتى الآخر، وعندها من الطبيعي أن يكون لبنان إحدى أكثر الساحات سخونة، في حين أن الوقائع من رام الله وغزة معاً، وصولاً إلى اليمن وما بينهما من بيروت فدمشق، ثم بغداد تعاكس كل المشاريع السياسية السعودية.
قناعة الحريري أن التوجه السعودي يقوم على إحياء «14 آذار» التي قيل فيها مرثيات لا تُعد ولا تحصى، وما كان صائباً سياسياً من هذه المرثيات صدر عن «مستقبليين»، فضلاً عن وليد جنبلاط. أما من خرج عن هذا التجمع من القوى الأخرى، فكان بسبب هامشيته أو شعوره بضعف حضوره مقابل فائض كان يسجله «تيار المستقبل» إلى جانب تأثير بالغ للزعيم الدرزي الذي ذهب إلى «وسطية» ابتدعها نجيب ميقاتي منصة للوصول إلى موقع تبقى صعوبة نجاح تحقيقه رهن بالميقاتي نفسه.
صحيح أن الحريري لا يزال على موقفه لجهة عدم جدوى حتى التفكير بإعادة إحياء «14 آذار» أو حتى ما يماثلها لمواجهة حزب الله، إلا أن ذلك لا يعني في حال من الأحوال أنه حسم تحالفاته الانتخابية بنحو يؤدي إلى تطاحن انتخابي يعيد الانقسام الذي كان إلى سيرته الأولى. وهو إذ يؤكد على الدوام اختلافه مع حزب الله على ملفات معينة، وكذلك عدم التحالف معه في الانتخابات، فإنما يفعل ذلك حرصاً على ما لا يزال ينتظره ويتوقعه: دعوة رسمية من المملكة لزيارتها كرئيس لحكومة لبنان وبما يعدل الصورة في أذهان اللبنانيين عن «الوضع الملتبس» خلال «أزمة الاستقالة»، ويؤسس لعودة العلاقة مع المملكة إلى ماضٍ ما كان أكثر «الحاقدين» ليجرؤ حتى على تصوره.
لا شك أن السياق العام للرئيس الحريري منذ 14 شباط 2005 حتى الآن وما تخلل هذه الفترة من محطات جعله هدفاً لسهام حلفائه أحياناً أكثر مما كان يتعرض له من معارضيه. والحق، أن الرجل كان يستفز خصومة حلفائه من علاقاته الراسخة والقوية مع عواصم القرار الغربية والعربية. وهذا أمر لا يطيقه ولا يحتمله من اعتقد لسنوات خلت أن هويته الدينية تجعله حصراً للذهاب والإياب في العلاقة مع لبنان. كذلك وفّر الحريري للسعودية حضوراً في اليوميات اللبنانية لم يتيسر حتى لوالده أن يقدمه. لكن ما يلحّ على السياسة من أسئلة يتعلق بالسبب الذي دفع الرياض إلى فعل ما فعلته. في لبنان ثمة أقاويل وشائعات كثيرة عن أن أسباباً شخصية صاغت ما يقال عنه إنه «حقد أميري» طاول الحريري بسبب من سلوك لصديق الأخير «صاحب السمو الملكي». وهو، وإن كان قد صودف حضوره، لم يكن له ناقة ولا جمل. هكذا تطاحنت الأحقاد القبلية الأميرية، وكان الحريري أحد ضحاياها.
الأكثر مدعاة للاستغراب، أن السعودية الموسومة بالتعامل مع الأقوياء بدأت تلجأ أخيراً إلى زعامات ضيقة بافتراض قدرة هذه على صناعة زعامة بديلة من «الحريرية السياسية». فعلى امتداد مرحلة اتفاق الطائف، وعلى اضطرابها وضبابيتها، كانت رئاسة الوزراء قلعة سعودية، أو «خط الدفاع الأول عن المملكة» على ما وصفها الرئيس فؤاد السنيورة في رسالة إلى «ولي الأمر» الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز. والسنيورة هو نفسه الذي يعيب على الأمين العام لحزب الله شأناً عقائدياً يقع في صلب حرية الأخير الدينية، ألا وهو تقليد مرجع ديني ينص على وجوبه مذهب الاثني عشرية، ومن دون أن تنسحب مفاعيله على الحياة السياسية. والأخير لم يقل ولم ينادي بلبنان خطاً للدفاع عن إيران.
مشقة الزعامة التي يكابد الحريري لنيلها لم تعد عقله بعد إلى لبنان وما فيه. وعيه وتوقه ينشدان رضا المملكة. فماذا سيفعل إذا كان أول شروط السعودية اختصام «حزب الله» بأي ثمن ومهما كانت الكلفة؟ وكيف سيرد على طلب بعث الحرارة في خطوط العلاقة مع حزبي «الكتائب» و«القوات»، وهو القائل إن الأخيرين لا يعادلان شيئاً بمواجهة الأرجحية المسيحية المتمثلة بـ«التيار الوطني الحر»؟ وإن العلاقة معهما مربكة في أحسن الأحوال، ومُتعبة في أسوئها.


السياسة بعد «العاطفة»

لم يترك رئيس حكومة اللبنانيين وباعث آمالهم ابتزازاً إلا ومارسه. اختار العاطفة منقذة له على الدوام ليطل على مناصريه ليبرر استدارته. دائماً يضع دم والده على صفحات خطابه. يُشهرها عبر الشاشات. بارع في استحضار الغصة. وبالدم نفسه يتطهر من كل تصلب بوجه هذا الفريق أو ذاك. لم يبق أحدٌ لم يشتبك معه. أكان حليفاً أم خصماً. آخر شططه كان مع رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي تبرع ــ على غير عادته ــ ليقف إلى جانب الحريري «ظالماً أو مظلوماً». وهكذا كان مع الرئيس عون، ومع رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع. جنبلاط يشتكي دوماً من «صبيانية سعد الحريري». عائلة أمين الجميّل أصلاً وفرعاً أحرق المراكب معها. الأرمن ليسوا بأفضل حال: يتضامن معهم في ما نزل بهم من الأتراك في زمن مضى، ثم لا يلبث أن ينتفض عِرق «السلطنة» في جسده. حتى فريقه صار شتيتاً جراء غيابه عن إدارته أو تبني بعضهم سردياتهم عن بعض. حتى ما يدعيه من «وسامة» أفرط في استهلاكه. اللبنانيون لا ينسون سابقة منع مصور صحافي من دخول منزله في وادي أبو جميل صيانةً لوسامة رئيس الحكومة.

المصدر: زياد البابا - الاخبار