لا يمكن قراءة خطاب الرئيس سعد الحريري إلا من خلال استعادة صورة ذلك الابن الذي فقد والده ولجأ إلى مجموعة من السياسيين والمفكرين لاحتضانه وكتابة مسار سياسي رافقه طوال سنوات. في سن «البلوغ» الثالث عشر، وقّع الحريري وثيقة انقلابه على أصدقائه وحلفائه

كي يكتمل المشهد الذي أطل به الرئيس سعد الحريري يوم 14 شباط، كان يجب أن يذكر بالاسم ويتوعد ويتهم البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله بطرس صفير بأنه ينقلب عليه. حينها كان يمكن أن يقال حقاً إن الحريري نضج في السياسة، واستحق تصفيق الحاضرين، ليس لأنه بات يتقن قراءة اللغة العربية، بل لأنه خلع عباءة والده. وبرهن حقاً أن الوفاء للرئيس الراحل رفيق الحريري يكمن في أن يعادي كل التركيبة التي حولت الاغتيال حدثاً استثنائياً وقالت للأميركيين، قبل السوريين، إنها لن تتراجع ولن تخرج من وسط بيروت قبل تحقيق الانسحاب السوري.

كافأ سعد الحريري، الثالوث، الراحل سمير فرنجية، فارس سعيد وسمير عبد الملك ومعهم سيمون كرم وأعضاء قرنة شهوان، الذين أدخلوا اغتيال رفيق الحريري في الذاكرة التاريخية، وأهداهم وساماً لأنهم حولوا الاغتيال حدثاً أساسياً في النص التاسع عشر للمجمع البطريركي الماروني، تحت عنوان الكنيسة والسياسة.
لم يعرف «المسيحيون الأوائل» الذين عمّدوا مسيرة 14 شباط، أنه يمكن أن يشهدوا يوماً على وارث عائلة الحريري، يقول عنهم ما قاله، وهم الذين كتبوا في المجمع الماروني، واستحقوا حينها غضب كثيرين، أن «انتفاضة الاستقلال إثر استشهاد الحريري» شكلت لحظة تاريخية فتحت باب الخلاص الوطني بتوحد غالبية الشعب اللبناني على نحو غير مسبوق...». هي لفتة غير مسبوقة، دخل فيها زعيم سُني، وسُمي اغتياله وحده من دون غيره، استشهاداً، في أهم نص ماروني كنسي رسمي كتب منذ عشرات السنين. ولا نعرف إذا كانت أي وثيقة صادرة عن دار الفتوى أو غيرها من المؤسسات الدينية لفتت يوماً إلى حوادث الاغتيال التي طاولت الشخصيات المسيحية منذ عام 1975.

لا يمكن أن يمرّ كلام الحريري عابراً، وأن يطوى الخطاب، بوصفه ردّ فعل وتصفية حسابات، بمجرد أن الأخير، أراد الانتقام وصبّ غضبه على من شكل مساراً سياسياً، اعترف خصومه يوماً بأهميته، أو بأنه حوّل ذكرى اغتيال والده، إعلان تفليسة، كما في الإعلانات المبوبة، واستدراج عروض للتمويل الانتخابي. ما حصل أبعد من مجرد استعادة الذكرى والانقلابات التي حصلت على الطريق في 13 عاماً، والحكومات والسياسات الهوجاء حينها والاستعراضية حيناً آخر.
مشكلة حقيقية، أثبتها خطاب الحريري، في نسخته الجديدة، وقد اعتدنا نسخاً عدة منه بحسب الظروف، هي أنه لم يفكّ تحالفاً انتخابياً أو سياسياً، بل تعمّد إشهار انفصاله الثقافي والتاريخي والحضاري مع مجموعة سياسيين ومفكرين أولاً وآخراً، كان عملها الأساسي أن تكتب وتكتب وتكتب. ولعل هذه إحدى خطاياها الأساسية، حين أرادت «تصنيع» زعيم وطني، لا يكتب ولا يقرأ إلا ما يقرأه له المستشارون، ولا يعرف لبنان ولا لغته المحلية ولا تاريخه، وأغانيه ومسرحه وأدباءه. فضيلة أركان قوى 14 آذار، بعيداً عن أي تذاكٍ في السياسة، هي أنهم عرفوا لبنان ما قبل 1975 ورافقوا مسار الحرب وعبثياتها من مواقع مختلفة، لكنهم حولوا تجربتهم إلى مكان غني بالأفكار وبالأدبيات والنقاشات، وأرادوا للحريري أن يستفيد من هذا الجو العاطفي حوله، كما السياسي، ليتحول رجل الخيارات الصعبة والمفصلية. لكن ما كان يستفيد منه الحريري الأب، لم يعد مفيداً للحريري الابن، بعد سنوات من المعاندة، لا بل إنه انقلب عليه، وخرج من ظله إلى رحاب النقاشات المالية والصفقات.
من المجحف القول إن قيادات الصف الأول لم ترتكب أخطاءً، وإن الحريري وحده يتحمل وزر ما حصل لقوى 14 آذار. يُشهد للرجل أنه حاول أن يقدم زعامة جديدة بعد والده في تحدٍّ استثنائي، وحاول استيعاب ما قدمته له المجموعة السياسية التي عرفها والده أيام الطائف وبعده، لصياغة مشروع تحالفات بنيت على أسس جديدة. ويُشهد له أنه حارب أكثر من مستشار أراد منه القفز فوق هذه المجموعة التي أسست للقاء البريستول وقرنة شهوان ولقاءات قريطم المسائية، لمصلحة تحالفات تقليدية، واستمر متمسكاً بها، قبل أن يرتكب الخطأ تلو الآخر. تارة لدواعٍ سعودية وإقليمية، وتارة لدواعٍ محلية بحتة أساسها الصراع السني الشيعي. لكنه لم يذهب يوماً بعيداً كما ذهب بالأمس، حين انفصل نهائياً عمّن كانوا أصدقاء وليس حلفاء فحسب. هم أنفسهم غفروا له حين سمى رئيس تيار المردة النائب سليمان فرنجية مرشحاً، رغم أنه حاربه طويلاً على خلفية اغتيال والده، وهم حاولوا تفهم دوافعه إلى ترشيح الرئيس ميشال عون، من دون أن يوافقوا عليه. لكنهم في كل المحطات حافظوا على احترام الخصوصيات، وعلى ما كان يقال في المجالس بالأمانة، وهي كثيرة وخطرة، وتكشف خبايا مرحلة حساسة من تاريخ لبنان. ودافعوا عن مكانة الحريري الابن كابن شهيد صلّت الراهبات على قبره كما علماء الدين المسلمون.
ولا ينكر أحد أن أخطاء هذه المجموعة تنوعت، بعدما لعبت السياسة الانتخابية أحياناً كثيرة دوراً مفصلياً، وتغلبت الأهواء السياسية ومحاولات التفرد بالزعامة على القاعدة الأساسية التي أطلقت مساراً سياسياً تعدى فكرة 14 آذار و14 شباط. القوات اللبنانية وحزب الكتائب أرادا استعادة الوراثة السياسية التي انحسرت خلال سجن الدكتور سمير جعجع ووجود الرئيس أمين الجميّل في الخارج قبل عودته إلى لبنان ومشاركته في قرنة شهوان، وتحصيل التركة من الذي تولوا إدارتها في غيابهم. الحسابات الضيقة اليومية أغرقت الأمانة العامة أحياناً في «تنظير سياسي» لم يترجم على الورق، وأفقدت المشروع الأساسي تدريجاً حضوره السياسي، خصوصاً مع التجاذبات حول تحويل قوى 14 آذار كياناً سياسياً. هذا الكيان الذي لم يندثر بفعل الخلاف مع الحريري على محطات مفصلية فحسب، بل أيضاً لحسابات مشاركين وطامحين في السلطة وفي الحضور السياسي والإعلامي تحت لافتة قوى 14 آذار.
لكن في كل المحطات بقيت هناك نواة سياسية وفكرية، اختلف معها كثيرون وعادوها، وهي ذهبت بعيداً أحياناً كثيرة في القفز فوق التسويات السياسية الظرفية وفي استمرارها في نهج لم تبدأ به عام 2005، بل عام 2000 وما قبله، لكنها ظلت أمينة على مبادئها، ولو بقيت وحيدة أو خالفت فيه رأي الأغلبية.
يمكن السؤال بجدية، بعد 14 شباط، أي نسخة من الحريري يجب أن نصدق، ولماذا أراد الحريري التصويب على حزب الله فساواه برفاق النضال الطويل، على الورق وحسب، في حين أنه يجلس إلى طاولة الحكومة مع الحزب ويطلق عداءً غير مسبوق ضد حلفائه؟ احتفال في 14 شباط من دون قوى 14 آذار، أو دفنها نهائياً، ليس هو الحدث. الأهم أنّ 14 شباط 2018، انقلب على 14 شباط 2005، وأطاح الكثير من الأخلاقيات السياسية.

المصدر: هيام القصيفي- الأخبار