حتى في خطر الموت، يشترط السياسيون توزيعاً طائفياً في وظائف رسمية عن فئات رابعة وخامسة. الوقوف فوق، بين الأرض والسماء، بالقرب من كابلات الخطر ليس وظيفة مسيلة للّعاب الطائفي. إنها قصّة حياة أو موت وليست قصة اختراع اسمه «التوازن الطائفي». قصّة كرامة وشغف تدفعهم إلى الاستمرار في ممارسة عملهم كمياومين، بالرغم من أن التيار الكهربائي التهم أجزاء من أجسادهم النحيلة.
أجسادهم الضعيفة في وجه المحاصصات السياسية. قسم كبير من اللبنانيين يرون فيهم «شبيحة»، قاطعين للطرق، وحابسين للناس في سياراتهم. لكن الصفعة التي طبعها ضابط أمن على وجه أحدهم كان لها دويّ أيقظت كثيرين على واقع شريحة يتلاعب بها السياسيون غير آبهين بأحلامهم وآمالهم وآلامهم. هنا، قصص بعضهم
حسن حمود
■ تقف آية بسنواتها العشر الى جانب والدها خلال اعتصامات المياومين. تمسك يده من دون أن تضغط على آثار الحروق. الكهرباء تسلّلت إلى جسد والدها. شوّهته. لكنه جميل بعينيها. بريقهما والضحكة يشيران إلى ذلك. ما شأنها باعتصامات المياومين؟ «المدرسة أعطتها إنذاراً إذا لم أكمل تسديد القسط» يجيب والدها حسن حمود.
كيف تتحمل هذا الوجع المروي على لسان والدها؟ «ما بيأثر! تابعت معاناتي وكانت ترافقني إلى المستشفى». يقول «الشهيد الحي» بين المياومين. هؤلاء يعرفون حسن جيداً ويستشهدون بقصته. أصيب «أبو علي» في حزيران 2010. يتذكر اليوم جيداً: «كان يوم سبت، عند الحادية عشرة قبل الظهر، ضمن دوام العمل الرسمي. كنت في محطة طوارئ وحدث فلام كهربائي. احترق نحو 50 في المئة من جسدي. حروق من الدرجة الثالثة والرابعة في الجسم والوجه».
لم يستقبله مستشفى المقاصد. «نقلوني إلى الجعيتاوي شبه غايب عن الوعي». هذا ما يتذكره عن الحادثة. 76 يوماً قضاها في العناية المركزة، خضع خلالها لعمليات أربع. والنتيجة عطل بنسبة 30 في المئة في اليد اليسرى. تكفّلت وزارة الصحة بنفقات العلاج في البداية «لأن تأمين المتعهد لم يكن يعترف بحوادث التوتر العالي». بعدها توقفت الوزارة عن إتمام العلاج. إنها لعنة المياومين غير المسجلين في الضمان الاجتماعي والخاضعين لسلطة المتعهدين وتحايل شركات تأمينهم. «منذ شهرين لم أتقاضَ راتبي» يقول «أبو علي» الذي يعتبر أن المياومين هم من جعلوا مؤسسة كهرباء لبنان تصمد إلى اليوم. إنها «بدعة المياوم» التي اخترعوها برأي حسن. بقي بعد الحادثة عاماً كاملاً بلا عمل. استدان ليسدّد أقساط مدرسة ابنتيه وابنه الذي ترك دراسة الحقوق ليرافق والده أيضاً. لا يهتمّ المعيل الوحيد لعائلته بشد الحبال الحاصل بين كهرباء لبنان وشركات مقدمي الخدمات، أو «مقدمي السيئات والقساوات» كما يصفها. ما يهمه تقاضي راتبه في بداية الشهر، وهذا أمر قلّما يحصل منذ عام 2012. أي منذ أن أبرمت العقود مع شركات مقدمي الخدمات. يريد من الضمان الاجتماعي أن يتحرّك للتنديد بمعاملة الشركات للمياوم وإجبارها على إدخاله في سجلات الضمان أسوة بالشركات الخاصة. حادثة 2010 كانت مفصلية في حياة حسن، لكن رواياته لا تقف عندها. يفاخر ابن الجنوب بمعالجته أعطال التيار الكهربائي في حرب تموز تحت القصف. يؤكد أنه أصلح ورفاقه أعطالاً في الناعمة والدامور والمناطق التي بقيت لثلاث ليال من دون كهرباء. «ليس لنا علاقة بالتجاذبات السياسية ونريد أن نعمل» يقول حسن. يريد أن يعمل بالرغم من تلك الندوب التي يحملها في جسده.
إميل نصراوي
■ قبل أسابيع، في اجتماع المياومين بوزير الطاقة سيزار أبي خليل، عرض إميل صور رأسه المثقوب ويده التي التهم التيار الكهربائي قطعاً منها. حمل إميل أشلاءه في الصور علّ فظاعة الصورة تحرّك ضمائر المعنيين. جواب الوزير كان هكذا: «ما بعرف، بدي شوف شو بدي أعمل». يقول إميل «سلّمته الصور بيدي وسمع مني عن وضعي». ووضع إميل يعود إلى 1 نيسان 2011. في ذلك اليوم، اصطدم رأسه بخط التوتر العالي وهو معلّق على عمود الكهرباء. «وصلت ميت عالمستشفى» يقول. لازم المستشفى 6 أشهر، خضع فيها لنحو 9 عمليات، وشهرين إضافيين قضاهما في العلاج. تزامن وجوده في المستشفى مع دخول شركات مقدمي الخدمات عام 2012. تقاضى أول مرتب له وبعدها وقّع عقداً مع Butec. «كان وضعي الصحي سيئاً، وكنت لا أزال أتناول أدويتي لكنهم كانوا يحاسبونني في الشركة إن خرجت قبل ساعة من انتهاء الدوام لأتناول دواء يفترض أن يبقى في الثلاجة». سمع التبرير من إدارة الشركة: «ما بيهمنا وضعك الصحي». يضيف «أجبروني على توقيع ورقة فسخ عمل بعد ثلاثة أشهر من عملي معهم. بقيت 5 سنوات بلا عمل. قدمت شكوى إلى وزارة العمل، وبعد طول مراجعة قطعت الأمل». يتذكر الرقم 619 جيداً، إنه رقمه المتسلسل في امتحانات مجلس الخدمة التي جرى إيقافها. «ما زلت أنزل إلى اعتصامات المياومين مع أني بلا عمل». لإميل ابنتان وصبي، لا يزال يحاول العمل على حسابه. «كأنك تغرق من دون أن تشعر بجسدك» هكذا يصف معاناته. وإميل الذي بدأ عمله مياوماً منذ 1994 ورد اسمه في سجلات الشركة في 1996. «سنتين مش محرزة» يقول ذلك، متخلياً بإرادته عن سنتي عمل فعلي. يضحك من حجة التوزيع الطائفي بالقول «أنا كاثوليكي من بكفيا». ويتابع «لا نعرف كمياومين الطائفية في ما بيننا. لا يوجد عدل يرضى بهذه الحجة. انا ضحيت بعشرين سنة من عمري في هذه المؤسسة».
رندة صليبا
■ تواظب رندة على المشاركة في تحركات المياومين. تريد مثلهم أن تدخل إلى ملاك «كهرباء لبنان». تعمل ابنة بلدة شْرين المتنية في قسم الكَيل والتنفيذ وتتابع معاملات تركيب الأعمدة والعدّادت والكابلات بين شركة كهرباء لبنان وإحدى شركات مقدمي الخدمات. «بدأت عملي في شركة كهرباء لبنان في بكفيا كمياومة عام 2002، ثم انضممت إلى شركة BUS في 2012». تتعاطف رندة مع زملائها في شركة «دباس» الذين لا يتقاضون رواتبهم، وتقول «أنا اليوم أتقاضى راتبي أما غيري فلا». فقدت رندة زوجها قبل 18 عاماً، وربّت وحيدة ثلاث فتيات. التجربة صعبة ولا شيء مستحيلاً. تقول بلا تردد «في البداية شعرنا أن الشركات تتلاعب بنا واليوم أتمنى أن يجروا امتحانات لندخل إلى ملاك الكهرباء». الامتحانات كما تصفها «أمر معيب بعد كل هذه السنوات من العمل». ترفض بدورها حجة التوزيع الطائفي: «أنا من طائفة الروم الأرثوذكس. لكن هل يرمون المياوم من طائفة أخرى في الشارع وهو يعمل قبلي بسنوات؟» تسأل باستهجان. «قلبي معهم» تكرّر. تتذكر شهيداً سقط عن عمود في بكفيا وكيف لم يتم التعويض على عائلته وزوجته الحامل. تعرف أن عملها خارج دائرة الخطر المباشر كباقي المياومين، لكن «من أين سيجدون بخبرتنا، بخبرة أولئك الشباب الذين يخاطرون بحياتهم؟».
أحمد شعيب
■ في 19 شباط 1999، انقسمت حياة أحمد شعيب الى مرحلتين، و«بتر جسمه نصفين». حدث خطأ ما وهو ينزل عن عمود الكهرباء فاصطدم بالتوتر العالي، قوة 15 ألف واط كانت كفيلة بسرقة عينه ونصف وجهه وأجزاء من بطنه وتضرر أطرافه. أحمد ليس حاقداً على أحد. يومها، لم يكن لدى الطبيب الذي عاينه أمل ببقائه على قيد الحياة. «بقيت ساعتين أنازع من دون تدخّل طبي وبدأوا يحضّرون لدفني... لكن لله إرادة» يقول. الكارثة التي حلت على أحمد وعائلته لم تكن كافية، في اليوم الثاني للحادثة توقف مرتّبه. هل يعقل؟ يؤكد: «في آذار من تلك السنة تقاضيت بدل عشرة أيام عمل في شباط الذي أصبت خلاله وبعدها لا شيء». طرد من عمله وهو غائب عن الوعي على سرير المستشفى. توقف عن العمل قبل أن يعود مياوماً بعد عامين على الحادثة، ربما «بواسطة». لا يتذكّر أحمد شيئاً عن معاناته الجسدية «مكثت 8 أشهر في المستشفى، أنا مت وعشت، بقيت سنتين بحنك مقطّب وبلا نطق. استخدمت الورقة والقلم للتعبير. احتجت لـ 350 وحدة دم». في البداية، اعترف تأمين المتعهد بأول عشرة ملايين من كلفة العلاج. الملايين الباقية «كانت بالدَّين وتبرعات المياومين وأهلي باعوا قطعة أرض». تراجع أحمد عن دعواه ضد شركة الكهرباء. «ضحينا لنأكل لقمتنا بعرق جبيننا، يا ما تظاهرت إني شبعان حتى يشبع أولادي». أولاده ثلاثة شبان، حرم من غمرهم وتقبيلهم. زار أحمد مراجع دينية وسياسية كثيرة، لكن النتيجة واحدة: «كل شي ذلّ». يبلغ من العمر 54 عاماً، ويسأل «ماذا يبقى لي إذا ثبتوني اليوم؟». لا يناضل أحمد لنفسه التي انكسرت بل «للآخرين المعرضين للسقوط مثلي». منذ تشرين الأول الماضي وهو يعاني كسِواه من عدم تسديد شركة «دبّاس» (إحدى شركات مقدمي الخدمات الثلاث) الرواتب التي انقطعت كلياً بداية العام. تقدّم إلى امتحانات الفئة الخامسة في مجلس الخدمة المدنية، لكن الامتحانات أُلغيت وهو عاتب على زملائه الذين أوقفوها في البداية، واليوم يطالبون بإعادتها.
لم يتوقّف عن العمل بالرغم مما أحدثه التيار الكهربائي في جسده. لا يعاني اليوم من رهاب الـ 15 ألف واط، بل يصعد إلى الأعمدة بمحاذاة الكابلات الخطرة لإصلاح الأعطال. لم يردعه الألم. لا يزال يكافح في دائرة النبطية التي تقع ضمن حصة شركة «دبّاس». يخرج وحده في الليل ويصلح الأعطال «لئلا تنام عائلات الجنوب بلا كهرباء أو ماء» يقول معتزّاً. يعرف أن ذلك لا مكافأة أرضية له. «لا تزال لي عين واحدة ويد وأريد خدمة الناس، علّ الله يحمي لي أبنائي».