في تقديراتها الدورية بشأن الساحة اللبنانية و«الحرب المقبلة»، والتي تحرص بمسؤوليها وإعلامها على نشرها وتداولها، تشدد إسرائيل على معادلة مفادها: احتمال نشوب حرب شمالاً ضد حزب الله ضعيف جداً، إذ لا نية لحزب الله بشن حرب على إسرائيل.
هذا التقدير يدعو إلى التأمل، وإثارة الأسئلة حول أهدافه الفعلية، وخاصة أن موقف حزب الله هو في أساسه ومنطلقاته، دفاعي ــ ردعي، ولا يرتبط بشن الحروب، التي تخرج عن وظيفة ومهمة المقاومة المعلنة والمكرسة من قبل قيادة المقاومة.
الواضح أن إسرائيل تهدف الى قلب موقعي الجانبين بينها وبين حزب الله، وترسيخ مسبق لمسؤولية البدء بمواجهة عسكرية قد تقع، محدودة أو واسعة، على المقاومة في حال قررت (المقاومة) الرد على اعتداء أو سيناريو تصعيد إسرائيلي، علماً بأنه لا جدال بأن موقف إسرائيل في طبيعته هجومي عدائي، وموقف حزب الله دفاعي ــ ردعي، مخصص لمنع اعتداءات العدو.
وإذا كان تحميل حزب الله مسؤولية الحرب إن وقعت، أحد أهداف هذه الديباجة الإسرائيلية المغلوطة، إلا أنها تهدف أيضاً وفي الموازاة، وفي مرحلة ما قبل الحرب، الى محاولة ردع حزب الله عن الرد على اعتداءاتها المفترضة في الساحة اللبنانية، أو خارجها، ضمن قواعد الاشتباك القائمة.
يراد لهذه الديباجة أيضاً، الإيحاء للطرف الثاني وللرأي العام الداخلي في إسرائيل ولبنان، وأيضاً في المحافل الدولية، أنه في حال قرر حزب الله الرد على الاعتداءات، فإنه سيتسبب بنشوب الحرب، وكأنها معادلة رياضية طبيعية، لا يمكن دفعها، الأمر الذي يؤمل منه، إسرائيلياً، أن يدفع بقيادة المقاومة الى التردد، وربما أيضاً الى إلغاء الرد على الاعتداء المفترض أو الحد والتقليص من مستواه وتأثيره الفعلي على إسرائيل.
أهداف هذه الديباجة هي خدمة المصلحة والموقف الإسرائيليين، سواء نشبت الحرب أو لم تنشب، وسواء وقع الاعتداء الإسرائيلي أو لم يقع، علما بأن الحرب، بأسبابها وإمكانات تحققها فعلياً، تُبنى على مصالح الأطراف التي تخوضها وتؤثر في قرارها، إضافة الى إمكاناتها الفعلية وأهدافها ومحدودية أو اتساع حدود القوة والقدرة على تحمل أثمانها في حال استخدامها، ناهيك، وبشكل أساسي، عن القدرة الفعلية على تحقيق النتيجة المتوخاة منها.
والتمعن في موقف الطرفين، أو الأطراف المعنية بالحرب المقبلة، والعوامل الدافعة والمانعة لها، كافية كي تؤكد النتيجة: استبعاد نشوب الحرب، لكن من دون إلغائها بالمطلق، إذ توجد في ساحات الاشتباك المفترضة بين الجانبين دينامية متحركة لا يمكن التنبؤ بها، قد تدفع بطرف من الطرفين، أو تجبره، على فعل لم يكن متوقعاً، ومن شأنه أن يؤدي بدوره إلى مواجهة واسعة، وربما أيضاً الى حرب.
لدى الجانب اللبناني جملة من السيناريوات الاعتدائية، مفترضة نظرياً وغير مستبعدة بالمطلق عملياً، يمكن أن تقدم إسرائيل عليها، وخاصة إن وقعت (إسرائيل) في تقدير خاطئ أو مغلوط لموقف وردة الفعل اللبنانية المقابلة. هذا رغم الإدراك المسبق أن وقوف الجانب اللبناني بلا حراك والامتناع عن ردة الفعل على الاعتداءات الإسرائيلية، إن حصلت بالفعل، من شأنه أن يدفّع لبنان أثماناً كبيرة جداً وإن لاحقاً. عدم الرد يجر في أعقابه اعتداءات إسرائيلية أخرى، قد تتعاظم تباعاً، وبطبيعة الحال تتسبب حكماً بمواجهة واسعة لاحقاً، ما يعني أن عدم رد الفعل على الاعتداء الإسرائيلي يؤجل المواجهة ولا يلغيها، في حين أنه من ناحية منطقية، الرد على الاعتداء الأول قد يكون مطلوباً، لمنع تطور الاعتداءات الإسرائيلية، وأيضاً لمنع التوجه الحتمي نحو المواجهة.
التهديدات الإسرائيلية للثروة النفطية والغازية للبنان هي بالتأكيد في مقدمة الأسباب التي تستدعي ما يردع العدو عن تنفيذ تهديداته. وفي الواقع، القدرة الفعلية لدى لبنان على الرد بالمثل، وفي هذه الحالة الإيذاء أكثر، ردعت إسرائيل فعلياً، وقلبت تهديداتها الى «مطالبة» بحل تسووي على غير عادة إسرائيل، أي الى ما يشبه التعقل، رغم تهديداتها وادعاءاتها حيال الثروة النفطية للبنان. وإلى الثروة النفطية، لدى إسرائيل تَطَلُّع ربما الى تنفيذ ما تهدد به في الساحة اللبنانية. لكن ما يمنع تفعيل التهديد هو إمكان رد حزب الله، بالشكل والمضمون اللذين يحولان دون وقوع الاعتداء، وبطبيعة الحال يحولان دون تطور الأمور لاحقاً.
ديباجة التقديرات الإسرائيلية المبنية على المنطق المغلوط، أن سبب الحرب هو الرد على الاعتداء لا الاعتداء نفسه، أريد له أن يتغلغل في الوعي، وأن يتركز معادلة مسلماً بها. وهي للأسف تجد تعبيراتها لدى البعض، رغم أنها تقلب المعايير المنطقية للأسباب والنتائج، وبطبيعة الحال قلب موقعَي المعتدي والمدافع.
إمكانات المواجهة الشاملة وغير الشاملة، ومعقولية نشوب الحرب، ترتبط بمسبباتها الواقعية والفعلية: قرار إسرائيلي ابتدائي بالاعتداء على لبنان، لا بالرد الطبيعي والواجب على الاعتداء.