لا يعيش الرئيس فؤاد السنيورة وضعاً سياسياً مُريحاً. مقامه داخل تيار «المُستقبل» لا يُشبه ما كان عليه في الأمس القريب ولا الصّورة التي يُحاول إظهارها اليوم. يُواجه مُشكلة لا يستطيع إنكارَها ببساطة. هو اليوم رئيس كتلة مُهمّش، مُعاقب، ممتنِع حتى الآن عن اتخاذ أي خطوة صِدامية مع الرئيس سعد الحريري... وعلى بعد خطوات من إعلانه (مُرغماً) عدم نيّته الترشّح إلى الانتخابات النيابية
دارَ الزّمن مرّتين على فؤاد السنيورة في تيار «المُستقبل»، مرّة لحسابهِ وأخرى عليه. الأولى، حين دخلَ نادي رؤساء الحكومات، ممثلاً تيار الرئيس رفيق الحريري، غداة انتخابات عام 2005 التي تولتها حكومة نجيب ميقاتي. والثانية، حينَ خرجَ تدريجياً من دائِرة القرار المُستقبلي، ردّاً على اعتراضه الصريح والمعلن على خيار إبرام تسوية رئاسية مع التيار الوطني. وبينَ المحطتين، عقد من الزمن، تغيرت خلاله خرائط المنطقة والعالم، وبرزت وقائع لبنانية انقلابية، من خروج سوريا من لبنان وصولاً إلى خروج سعد الحريري من السعودية.
شكّل فؤاد السنيورة في الكثير من المحطات بوصلة سياسية للتيار الحريري بصفته «المؤتمن على الدم» أو أحد أبرز الملمين بتفاصيل الإدارة اللبنانية، و«الأكثر قدرة على إدارة مفاصل التيار نتيجة إلمامِه بملفات الرئيس الشهيد وطريقة تفكيرِه». زد على ذلك، قدرته على التطبيع مع «الدول» ونسجه خلال فترة قياسية منظومة علاقات إقليمية ودولية لا تشبه أبداً شخصيته ما قبل توليه الرئاسة الثالثة.
وبطبيعة الحال، تبرع كثيرون بعد شباط 2005 بالأبوة السياسية في قصر قريطم. كان أحدهم فؤاد السنيورة. فِقدان الحريري (الابن) ــ الحديث العهد في السياسة ــ للخِبرة، جعل مساحة السنيورة تكبر، ليصبح قائداً للتيار السني اللبناني الأكبر ومن خلاله الأكثر تأثيراً في تيار 14 آذار.
ومن المفارقات أن الحريري، مكلفاً من الرياض، قدم للسيد حسن نصرالله، بعد انتخابات عام 2005، اسمي مرشحين لرئاسة الحكومة، القاسم المشترك بينهما، قربهما من والده، وهما بهيج طبارة وفؤاد السنيورة، لتؤول بعد أيام قليلة إلى الثاني، قبل أن يكتشف حزب الله فداحة هذا الخيار الصدامي، خصوصاً في نهاية عام 2005، عندما قرر تمزيق «اتفاق الرياض»، قائلاً للخليلين (حسين وعلي حسن): «بي بي سعد الحريري ما بيخليني إمشي باتفاق قاهرة جديد».
كان الاتفاق يقضي بتحييد سلاح حزب الله في إطار معادلة سياسية وافق عليها سعد الحريري في الرياض وأبلغ الخليلين هناك موافقة الملك عبدالله عليها (كان ولياً للعهد)، ليتبين لاحقاً أن من أعطى الأمر بإسقاط الاتفاق هم الأميركيون.
ولا ينسى أحد أقطاب 8 آذار، الساعات الأولى التي أعقبت عملية أسر الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز 2006: دخلنا إلى السرايا، فوجدنا السنيورة في مكتبه. قال لنا والفرحة تغمر وجهه، هل تعلمون من كان معي على الخط قبل دقائق. إنه جورج دبليو بوش. قبله تحدثت مطولاً مع جاك شيراك.
لعل نقيض هذه الصورة واقعة جرت بين رفيق الحريري ووزير مال إحدى حكوماته فؤاد السنيورة. على طاولة مجلس الوزراء، صوّت وزير المال ضد اقتراح للحريري. خرج الأخير من الجلسة ونادى «فؤاد» أن يذهب معه بالسيارة. سأله مستفسراً عما «ارتكب»، فأجابه السنيورة: مارست قناعاتي. رد عليه رفيق الحريري متمنياً عليه أن يحتفظ بقناعاته لنفسه وأن لا يكرر فعلته مرة ثانية.
لم يقلها الحريري بالفم الملآن، لكنه كان يتصرف مع بعض المقربين منه، وبينهم السنيورة، بصفتهم موظفين، وليس أصحاب رأي وقناعات.
لا فاصل زمنياً بين «الموظف» و«صديق رؤساء الدول». كان بمقدور السنيورة أن يهاتف الملوك والرؤساء ساعة يشاء. قالها في مقالة نشرت له في إحدى الصحف الخليجية غداة حصار السراي الحكومي في عام 2007، بأنه يقف في «الخط الأمامي» دفاعاً عن المملكة.
لم تدم الحظوة التي نالها رئيس كتلة المُستقبل النيابية طويلاً، وها هي تؤول اليوم إلى حرس الحريري الجديد، بدليل أنه بات من الصعب على السنيورة الاحتفاظ بمكانته بين جناحين يتباعدان عن بعضِهما البعض بمقدار تباعد الخصوم في الرؤية والهدف. وإلا ما معنى استخدام أسلوب التجاهل والتهميش حياله، واستبعاده عن مركزية القرار وإصدار حُكم بعدم ترشيحه على لوائح «المُستقبل» في الانتخابات النيابية المُقبلة؟
الواضح أن للمُستقبليين الجُدد الذين يقودهم حالياً مدير مكتب رئيس الحكومة نادر الحريري خطّة لإضعاف التيار المُعارض لنهجهم في إدارة العهد بالشراكة مع العونيين، والخلاص منه نهائياً إذا ما قُدّر لهم ذلك. وليس أفضل من البدء بالرأس (السنيورة) الذي تزعّم «مجموعة العشرين»، ممُا يساعد على تدجين أعضائها وعدم السماح لهذه الحالة بالتمدّد والتأثير على القاعدة الشعبية، لا سيما وأنها تعبّر في مواقفها عن لسان حال كُثر من المناصرين في القاعدة الشعبية للحريري... وخير نموذج في العاصمة تجرؤ صلاح سلام على ترؤس لائحة بوجه تيار المستقبل.
هذه الخطّة بدأت بعد تحرر رئيس الحكومة من «أسره» في الرياض. ففور عودته، أصرّ الرجل على ترؤس اجتماعات الكتلة بدلاً من السنيورة. حتّى إنه وخلال الاجتماعات تقصّد تجاهله، وغلّب عليه مستشاره باسم السبع الذي تولّى صياغة البيانات وتلاوتها، بعد أن جرت العادة بأن يكتب السنيورة بحسب تراتبية المواقع مسودة البيان. وكان ذلك أول إشارة من رئيس تيار المُستقبل تجاه رئيس الكتلة بأن قرار استبعاده دخل حيّز التنفيذ. حينها ظنّ البعض بأن هذا التصرّف ينطلِق من قناعة لدى الحريري ودائرته الضيقة بأن السنيورة متورّط في المؤامرة السعودية، وأنه من ضمن الذين اتُهموا بأنهم «كتبة تقارير للمملكة». لكن سرعان ما اتضح بأن الإبعاد نوع من الرد على رفض السنيورة القطيعة مع الرياض وعدم استساغته التقارب مع التيار الوطني الحر وعملية ربط النزاع مع حزب الله.
لا شيء يزحزح وجهة نظر فريق مستقبلي يتهم الحريريَّين (سعد ونادر) بسوء إدارة الملف السياسي، الداخلي والخارجي، وعلى رأس هؤلاء فؤاد السنيورة، أول من اعتبر بأن «عون الآن لا يزال هو نفسه عون في الثمانينيات، وأنه يريد العودة إلى ما قبل الطائف ليس بتغيير النصّ، وإنما بالممارسة». وهذه لغة يعتبرها المستقبليون الجدد «دقّة وذهنية قديمة، لا تجاري الواقع ولا تتكيف مع الحياة السياسية العملية التي تحقّق مصلحة الحريري وجمهوره».
يمُر السنيورة في مرحلة صعبة بالتأكيد، ولا يتصرف على أن ما يجري مجرد أزمة عابرة داخل التيار، فصورته حاضراً في الصفوف الأمامية خلال إحياء ذكرى اغتيال الحريري، في «البيال»، وتفاعله بحماسة زائدة مع خطاب رئيس الحكومة ضد حزب الله، لا يُلغي حقيقة أن دوره كنائب صار في نهاياته.
قبل أسابيع قليلة، قال السنيورة أمام مستقبليين بأنه لم يحسِم بعد أمر ترشّحه للانتخابات، ملمّحاً إلى «إمكانية نزولِه على لوائح غير لائحة المُستقبل». لكنه منذ أيام كشف أمام زواره أنه لن يخوض معركة الانتخابات، وأنه في صدد التحضير لبيان يُعلن فيه ذلك. وقد علمت «الأخبار» أن اجتماعاً كان سيجمعه منذ حوالى الأسبوعين بسعد الحريري وبهية الحريري، لبّت الأمر، لكنه تأجّل «لأسباب لوجستية».
يُقال في الكواليس إن السنيورة «كان ليترشّح وحيداً لو كان هناك قانون نسبي على مستوى لبنان ككل، لأنه بذلك يضمَن فوزه»، وهو «لن يغامر في ظلّ قانون يراه هجيناً ولا يؤّمن صحّة التمثيل». لكن الأصح أن قراره ناتج عن سماعه من داخل التيار بأن «لا أمل له، وأن أولوية التيار هي تجديد نيابة بهية الحريري وإعطاؤها كل الأصوات التفضيلية»، فكان ذلك بمثابة إشارة له بأنه «أول ضحايا الانتخابات»، بدليل أنه لم يُسجّل منذ فترة للسنيورة أي نشاط انتخابي في مدينة صيدا.
النقاش الدائر حالياً، يطرح إمكانية إبقاء السنيورة رئيساً للكتلة كجائزة ترضية مقابل حجب النيابة. وهو أمر مألوف في عدد من التيارات والأحزاب، كما هو حاصل في القوات والتيار الوطني الحرّ، حيث يترّأس كتلتيهما النيابية كل من سمير جعجع وجبران باسيل، مع فارق في الدور حيث سيكون حضور السنيورة شكلياً.
بحسب مقربّين من السنيورة، فقد أسرّ لهم الأخير أنه «يفكّر في إعلان انفصاله عن تيار المُستقبل بعد الانتخابات، من دون اتخاذ أي خطوة صدامية مع الرئيس سعد الحريري». لكن الرجل نُصح من قبل أعضاء في «مجموعة العشرين» بعدم الانفصال قبل تشكيل جبهة مستقّلة تضمه وآخرين من البيئة نفسها.