لماذا يذهب اللبناني إلى صندوقة الاقتراع للإدلاء بصوته؟
الأمر لا يحتاج الى دراسة. تكفي مراجعة المحطات الانتخابية، بعد انتهاء الحرب الاهلية، للتيقّن من أن الميل السياسي هو من يتحكّم في المقترعين. والميل، هنا، لا يعني بالضرورة انخراط جميع اللبنانيين في الحياة السياسية أو في الاحزاب القائمة، بل يعني تبنّي وجهة يعتقد المقترع بأنها الاقرب الى ما يلبّي تحقيق درجة من الامان له.

والأمان، في لبنان، يعني أموراً عدة، من بينها الأمن الفردي الذي لا يزال كثيرون يعتقدون بأن الاطار القبلي الضيق هو القادر على توفيره، والأمن الاجتماعي الذي يؤمّنه الاطار القبلي الأوسع. في الحالتين، يربط اللبناني أمنه واستقراره بحاجته الى حضور عام. الى صوت تطرب له أذناه، او اسم يمكنه تبنّيه في حياته اليومية، أو خطاب يعتقد أنه مناسب له ولذريته. وفي حالتنا، ندور وندور، لنعود الى المربع الاول، حيث تشكل الطائفة المصدر الرئيسي لهذا الأمان، إذ تجمع كل ما يريده الناخب: الاسم والصفة والوعاء الايديولوجي والخطاب وطريقة الكلام والباب الى العمل والطعام والشراب، والطريق الى حصته من الدولة والمال العام.
في العقود الاخيرة، باتت الطائفة العنوان الذي يلجأ اليه الناس للتمترس، أو السير خلف راية أو شعار، أو تبنّي موقف ما من العناوين الكبيرة... وصولاً الى الانخراط ـــ الأعمى في بعض الاحيان ـــ في المعارك التي تتخذ طابعاً وجودياً. وهذه المعارك تحصل، عادة، في مواجهة خصم، هو ابن طائفة أخرى يدافع عنها ويخوض معاركها في وجه الآخرين.

عملياً، أدت هذه المعارك، في السنوات التي أعقبت ما يطلق عليه الاستقلال، الى تثبيت موقع الطائفة والمذهب فوق أي موقع آخر، والى جعل النظرة الى الدولة، أو الى الشأن العام، أو الحق العام، تنحصر بما اتفق في الطائفة على اعتباره مطالب وحقوقاً، ما جعل الامر يبدو، أخيراً، على شاكلة معركة جماعية على حصة واحدة في الصحن اللبناني، لا تقاسم عادلاً فيها، ولا رأفة الا حيث يقرر «الغازي» أن يترك للضحية ما يسدّ رمقها، ليس احتراماً لها، بل احتراماً لقاعدة «التعايش» التي تفرض وجود آخر يجب أن نقاتله.
ولأن غالبية الناخبين تصرّفوا على هذا الاساس، لم يعد مهماً الكلام عن دولة للجميع، أو عن قانون موحّد يسري على كل الناس، أو عن مساواة لا تميز بينهم... حتى ضاقت بنا الطرق، وتُهنا في ملاعب الطوائف الكبيرة، فلم يعد سهلاً العثور على نزاع سياسي بين جهتين أو فريقين على أساس التزام مصالح الدولة المشتركة واحترام القانون.
ولأن الواقعية القاسية تفرض الإقرار بهذه الحقيقة، يصبح من المنطقي توقّع أن لا يكون سلوك الناخب اللبناني في هذه الدورة مختلفاً، لا في المنطلقات ولا في الاهداف. وحتى قانون الانتخابات نفسه، بما يتضمّنه من نسبية، لن يغيّر في هذه القاعدة. جلّ ما في الامر أنه سيتيح لآخرين، ممن يعيشون على هوامش الطوائف الكبرى، أن يحتلوا مقعداً الى جانب الآخرين. وهذا كله يدفع الى الاقتناع بأن التغيير الذي يحلم به الناس عادة، بقيام إطار مختلف يساوي فعلياً بين الناس، غير ممكن، أو ـــ على الأقل ـــ غير متوقع حصوله الآن.
وبما أن الممتنعين عن التصويت شركاء عمليون في هذه المسؤولية، فإن من المنطقي أن يدلي هؤلاء بأصواتهم، ولو على شكل موقف يبررون فيه سبب مقاطعتهم العملية الانتخابية ترشيحاً أو تصويتاً. وهذا يفتح الباب أمام سجال غير معقّد مع القابضين على روح البلاد والعباد، ويتيح توجيه أسئلة بديهية مهما قيل إنها قاسية أو كيدية، ومنها:
ــــ إذا كانت اقتناعات غالبية الناخبين ستدفعهم الى التصويت لقوى تستند الى قواعد ذات نقاء طائفي أو مذهبي، فلماذا لا يناقش هؤلاء القيّمين على أمورهم في نوعية المرشحين. بمعنى آخر، ما الذي يجعل الموارنة والكاثوليك والأرمن والروم والسنّة والشيعة والدروز والعلويين لا يختارون الافضل أو الأكفأ من بين أبناء جلدتهم؟
الجواب بسيط، وهو أن من يوالي قيادات على أساس الانتماء الطائفي والمذهبي والقبلي، لا يحق له مناقشتها في أمور أخرى. وما دام قبل بمبدأ المبايعة، فليس عليه أن يقلق أو ينزعج من خيارات وقرارات من بايعه، سواء كان حزباً أو تياراً أو شخصاً.
ــــ إذا كانت اقتناعات غالبية الناخبين ستدفعهم الى التصويت لمن يثقون بهم سياسياً، فلماذا لا يناقشون القيّمين على أمورهم في آلية اختيار الناطقين باسمهم الذين سرعان ما يحتلون المنابر لسنوات وسنوات؟
الجواب بسيط أيضاً. فمن قرر موالاة هذا أو ذاك من القيادات، على أساس الثقة السياسية، من غير المنطقي أن يناقش في طريقة اختيار من سينطق باسمه. ذلك أن منح الثقة للخطاب، يبطل السؤال عن هوية من سيقرأ الخطاب.
وهكذا دواليك. لكل سؤال منطقي جواب منطقي.
إذا قرّرنا تجاوز الواقعية وأن ننشد التغيير الشامل، فإن الأمر لن يستقيم قبل ان يخرج من ينسف هذه القاعدة من الولاءات ويقنع الناخب برفض المشاركة في الانتخابات. وهي خطوة اولى قبل الذهاب نحو مرحلة التصويت لمرشحين آخرين. غير ذلك، لا يمكن لمن لا يعجبه النظام السياسي القائم اليوم الموافقة على برنامج كل من يطرح نفسه معارضاً، بل، ربما، يزداد الشعور بالقلق لدى رافضي هذا النظام، عندما يحمل معارضون وصفات الغرب الاستعماري التي يكثر فيها الحديث عن المجتمع المدني أو ما يعادله، وهو قلق يعيدنا الى مربع اساسي في معركة الاستقلال الحقيقي التي تتيح لنا بلداً قادراً على انتاج نظام سياسي مختلف. هذا المربع يعني أن التصويت السياسي يجب ان يكون واضحاً في مصلحة من يعارض فعلاً المشروع الاستعماري. وهذا يعني، ببساطة، أن المقاومة ـــ ومن يدعمها ويقف معها ـــ تبقى العنوان الوحيد الذي له معنى، في هذه الغابة الكثيفة بأشجار الفساد والتفريق العنصري.

المصدر: جريدة الأخبار - إبراهيم الأمين