«مسار الدين العام ليس مستداماً». بهذا الوضوح حذر صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير، لكن تحذيرات الصندوق عادت إلى الواجهة أمس في مناقشات مشروع موازنة 2018 حيث تبيّن أن العجز تورّم كثيراً ليبلغ 8 مليارات دولار!

سقطت محاولة تجميل مشروع قانون موازنة 2018، إذ تبيّن أمس في جلسة اللجنة الوزارية المكلفة درس المشروع أن العجز سيبلغ 12000 مليار ليرة بدلاً من 7569 ملياراً، كما ورد في النسخة التي رفعها وزير المال علي حسن خليل إلى مجلس الوزراء. هذا التورّم الكارثي في العجز أربك اللجنة التي بدل أن تخفض الأرقام بنسبة 20 في المئة كما طلب رئيس الحكومة، وجدت نفسها أمام مهمة صعبة لجهة إعادة هيكلة الموازنة على أساس خفض العجز وزيادة الواردات.

في موازنة 2017 كان العجز يبلغ 7490 مليار ليرة، أي قيمة الزيادة في العجز خلال سنة واحدة بلغت 4510 مليارات ليرة، أو ما نسبته 60%. هذه الزيادة خطيرة جداً، لكن المشكلة تكمن في مصادر هذه الزيادة وفي القدرة على خفضها. فاللجنة اطّلعت أمس على تفاصيل العجز المقدّر لعام 2018، وتبيّن أنه رُصد مبلغ 600 مليار ليرة على سنتين لبواخر الكهرباء، وأن ارتفاع أسعار المشتقات النفطية التي تستعمل لمعامل الكهرباء يصل إلى 500 مليار ليرة، بالإضافة إلى 100 مليار ليرة للمؤسسة العامة للإسكان ومليارات أخرى لتطويع عناصر وضباط في الأجهزة الأمنية، وزيادة كبيرة في كلفة سلسلة الرتب والرواتب، فضلاً عن زيادة في خدمة الدين العام... هكذا بات على اللجنة أن تأخذ وقتاً أطول من المعتاد لدرس الموازنة، نظراً إلى ما تتطلبه عملية خفض النفقات وزيادة الواردات من قرارات جريئة وجذرية.
يأتي هذا النقاش في ظل غياب أي خطّة اقتصادية متوسطة وطويلة المدى، ما يعني أن الأفق المتاح أمام اللجنة يقتصر على نقاش سياسي بين حصّة هذه الوزارة وتلك. هي لعبة تركيب «طرابيش» هدفها مؤقت وظرفي، مثل قصّة تعميم رئيس الحكومة خفض 20% من نفقات الإدارات العامة، إذ تبيّن أن مثل هذا الطلب يعدّ «نكتة» سمجة، لأن اعتمادات الموازنة تتوزّع بين ثلاثة أقسام هي الرواتب والأجور وملحقاتها، كلفة دعم الكهرباء، وخدمة الدين العام. العبرة إذا في كيفية تنفيذ الخفض وأيّ أبواب سيطال.
هذا يعني أن «تركيب الطرابيش» لم يعد مجدياً. بعض الوزراء يرون أن ارتفاع الدين العام وخدمته إلى مستويات تفوق 150% من الناتج المحلي الإجمالي أمر بالغ الخطورة، ويتطلب أن يكون هناك نموّ اقتصادي بمعدل 15% لفرملة الدين والحيلولة دون ارتفاعه، وهذا أمر مستحيل حالياً.

الكلّ متهيّب هذا النقاش، لكن خطورته تكمن في المعطيات الواردة في البيان الأخير الصادر عن خبراء صندوق النقد الدولي بعد زيارتهم الأخيرة للبنان في إطار البعثة الرابعة. في بيان الصندوق، يرد الآتي:
«لا مفر من إجراء عملية كبيرة للضبط المالي تحافظ على إطار السياسة الاقتصادية الحالي الذي يقوم على سعر صرف ثابت تدعمه تدفقات الودائع الداخلة الكبيرة. فقد بلغ الدين اللبناني مستوى غير مستدام طبقاً للسيناريو الأساسي. وفي سياق من النمو المنخفض في لبنان وأسعار الفائدة المتزايدة عالمياً، سيزداد تدهور ديناميكية الدين ويزداد الدين العام بسرعة إلى مستوى أقل بقليل من 180% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2023 حسب السيناريو الأساسي، على أن يستمر بعدها في الارتفاع. وبالمثل، إذا لم يتحقق الضبط المالي، فسيستمر ارتفاع احتياجات الحكومة من التمويل، وتزداد كثافة الاعتماد المتبادل بين البنوك والكيان السيادي، ويؤدي اعتماد لبنان المتزايد على تدفقات الودائع الداخلة إلى زيادة تعرض الاقتصاد للتقلبات المفاجئة في ثقة المودعين».
لهجة الصندوق التحذيرية لم تقتصر على هذه الفقرة، بل تكرر الكلام عن فشل المؤسسات في الإطار الماكرواقتصادي العام، وهو يقصد بهذا الكلام صنّاع السياسات الاقتصادية والمالية في لبنان الذين التهوا بالفساد. أما توقيت التقرير، فيبدو محرجاً أكثر لهؤلاء، لأن بعثة خبراء الصندوق جاءت في وقت يستعد فيه لبنان لمؤتمرات الدعم في باريس وروما، وبالتالي فإن الحدّ الأدنى أن يكون لدى صنّاع السياسات الاقتصادية والمالية في لبنان القدرة على إقناع خبراء الصندوق بأن لبنان قادر على تجاوز هذه الأزمة، لكن العكس حصل، إذ تشير المعطيات المتداولة بين المصرفيين إلى أن اللقاء بين البعثة وحاكم مصرف لبنان كان متوتراً، نظراً إلى الانتقادات التي وجهتها البعثة للسياسات النقدية التي شجّعت استجلاب الدولارات من الخارج وزاوجت بين القطاعين المالي والعقاري، فيما تحوّل الدين العام إلى مصدر لتمويل الفساد السياسي... هذه التركيبة أحدثت تشوّهات واختلالات في السوق، أبرزها «ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار الفعلي بنسبة 2.8% في 2017»، وفق تقرير الصندوق. أما الحساب الجاري الذي يعدّ مؤشراً على سعر الصرف الفعلي وعلى استمرار النظام الاقتصادي أو ما يُسمى «النموذج اللبناني»، فقد سجّل عجزاً أعلى من 20% في 2017.

المصدر: محمد وهبة - الاخبار