غادر مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد بيروت من دون إحراز أي تقدم. عودته في آذار واردة في حسابات المسؤولين اللبنانيين. الموقف الرسمي اللبناني الموحَّد والمؤكِّد لاستعادة لبنان لكامل حقوقه حال دون نجاحه في فصل ملفي الحدود البرية عن البحرية. لكن ذلك لم يمنع وجود مواقف لبنانية متباينة، عبّرت عنها بوضوح دعوة وزير الخارجية جبران باسيل لاستغلال الفرصة وحل مسألة الحدود البرية
في حديثه لـ«الأخبار»، يوم الجمعة الماضي (23 شباط )، أكّد وزير الخارجية جبران باسيل «أننا أمام فرصة حقيقية لتحقيق نصر جديد باستعادة أراضٍ متنازع عليها على الحدود البرية منذ رُسم الخط الأزرق في عام 2000». وفيما رأى باسيل أن ذلك يشكل فرصة، سببها «قوة الموقف اللبناني السياسي والدبلوماسي والعسكري»، كان لافتاً للانتباه أن أحداً لم يتفاعل مع هذا الموقف سياسياً، ما يعني وجود تباين في الموقف الرسمي اللبناني من قضية الترسيم البري. وهذا فعلاً ما تؤكده مصادر رسمية لبنانية مطلعة على الملف، رأت في كلام باسيل مجرد تعبير عن وجود قراءتين لكيفية التعامل مع ملف الحدود.
كلام باسيل لقي صداه في واشنطن. تحدث الأميركيون بعد توجه ساترفيلد من بيروت إلى جنيف عن «مؤشرات إيجابية» في ضوء موقف وزير الخارجية اللبناني. لذلك، لن تتوقف وساطة ساترفيلد، بل هو وضع اقتراحات جديدة، وصلت عناوينها العريضة إلى بيروت قبل عودته مجدداً إليها. جوهر ما يسميها الأميركيون «الوساطة بين لبنان وإسرائيل» تقوم على إقفال صفحة الاقتراحات التي قدمت سابقاً للتفاوض بين بيروت وتل أبيب. «لنترك التفاوض للشركات الملتزمة التنقيب في البلوكات الحدودية في الجانبين، وبالتالي، يمكنهما تكليف مرجعية تقنية متخصصة بالمسح الجيولوجي والترسيم البحري (شركة دولية متخصصة)، تحدّد المنطقة الاقتصادية الخالصة في جانبي الحدود، وتضع حدوداً دقيقة للمكامن البترولية، فإذا بقيت هناك أية نقطة عالقة، تحال هذه المهمة على جهة دولية مقبولة من الجانبين اللبناني والإسرائيلي»، من دون معرفة ما إذا كان المقصود بالجهة الدولية، قوات الطوارئ الدولية («اليونيفيل») أو إنشاء شركة تنقيب دولية يكون لبنان عضواً فيها، وكذلك حكومة العدو، بحيث يتركز عملها في المنطقة الخلافية. باسيل في تصريحه لـ«الأخبار» لم يكن بعيداً عن هذا الجو، إذ شدد على أن ترسيم الحدود البحرية «ليس مجرد رسم خط حدودي فاصل فوق الماء، بل يتعلق بالحصول على الحصة اللبنانية من النفط في المكامن المشتركة تحت الماء».
وينطلق الاقتراح الأميركي من معادلة اقتصادية ـ سياسية، مفادها أن الثروات الطبيعية، وفي طليعتها البترول «يجب أن لا تكون مصدراً للحروب والنزاعات بل للسلام ورفاهية الشعوب»!
يُذكر أن الرئيس نبيه بري كان قد عرض على ساترفيلد اقتراحاً يقضي بتكليف خبراء متخصصين بالتنقيب عن النفط، من الجانبين اللبناني والإسرائيلي، مهمة ترسيم الخط الأبيض البحري، بإشراف خبراء وضباط من «اليونيفيل» أو الأمم المتحدة، ولا مانع لدى لبنان من أن يشارك الأميركيون في هذه المهمة، شرط أن يكونوا «شيخ صلح»، أي أن لا ينحازوا إلى إسرائيل كما جرت العادة.
وتقول مصادر رسمية لبنانية لـ«الأخبار» إن ساترفليد عاد من زيارته الأخيرة لتل أبيب من دون أي تجاوب إسرائيلي مع اقتراح الترسيم البحري، بل حمل ما سمّاها خطة تجزئة تقوم على فصل الترسيم البحري عن الترسيم البري، بوصفها «خطوة أولى لحل مسألة الخلاف الحدودي بين لبنان وإسرائيل».
هذه الخطة تلقفتها قيادات لبنانية بشيء من الحماسة، وأبرزها الرئيس سعد الحريري والوزير باسيل. مردّ هذه الحماسة يعود إلى رغبة في إنجاح الوساطة الأميركية وتحصيل ما أمكن من حقوق، مع الاستمرار بالتفاوض على المناطق البرية الباقية. المنطق نفسه الذي حكم المفاوضات بشأن البحر سابقاً: الموافقة على خط فريدريك هوف مع الاستمرار بالتفاوض بشأن المنطقة البحرية الباقية.
كل ذلك يشير إلى أن «الفرصة» عند طرف لبناني ليست كذلك عند آخر. والفرصة الفعلية عند الرئيس نبيه بري، على سبيل المثال، هي أن يستفيد لبنان من الحاجة الإسرائيلية لإنهاء ملف الحدود البرية، تمهيداً لترتيب استراتيجيتها الدفاعية على الحدود مع لبنان، بما يتلاءم مع توقعاتها للحرب المقبلة. وبالتالي، من مصلحة لبنان الإصرار على عدم التراجع عن موقفه المصر على تثبيت ملكيته لكل منطقته الاقتصادية الخاصة، ولا سيما الـ860 كلم مربع التي تدّعي إسرائيل ملكيتها. وفي ذلك إشارة واضىحة إلى أن المصلحة الإسرائيلية في ترتيب وضع الحدود لا تتحقق إلا بالتسليم بحق لبنان ببحره وأرضه من دون زيادة أو نقصان.
وأبعد من تأكيد وحدة المسارين البحري والبري، فإن رئيس اللجنة العسكرية اللبنانية التي تحققت من الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000، العميد الركن المتقاعد أمين حطيط، يذهب إلى حدّ اتهام كل مسؤول لبناني يقول بوجود نقطة متحفظ عليها بالوقوع في الفخ الإسرائيلي، ويكون كمن يستجيب لمطالب إسرائيل، مشيراً إلى أن «الحدود مرسّمة وليست بحاجة لإعادة ترسيم، إنما إلى انسحاب إسرائيل من المناطق التي عادت واحتلتها في عام 2006». أبرز مثالين على الاعتداء الإسرائيلي هما النقطة B1 التي شملها ترسيم عام 2000، وعادت إسرائيل وتقدمت عنها في عام 2006 نحو 25 متراً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قرية الغجر التي أعادت إسرائيل احتلالها. وفي كلتا الحالتين، لا يكون الخط الأزرق قد تغير، بل إسرائيل هي التي خالفته.
باختصار، إن وضع 13 نقطة حدوية موضع نزاع، وجعل ملف الحدود موضع تفاوض كما تريد إسرائيل يشكّل خطراً على الموقف اللبناني. ولذلك يجزم مصدر متابع بأن أي موقف يناقض الموقف الرسمي المصرّ على حق لبنان باستعادة كامل حقوقه لا يعوَّل عليه، مشيراً إلى أن هذه الحقوق تشمل ثلاث نقاط في البر ومساحة 860 كلم مربع في البحر.