عندما يتحول الإعلام إلى مرآة مطابقة لحال الحاكم والمتنافسين على الحكم في لبنان، تسقط نهائياً آليتا الرقابة والمحاسبة من قبل الجمهور. فكيف يكون الحال واللبنانيون يواجهون مشكلة غياب الرقابة والمحاسبة من قبل السلطتين التشريعية والقضائية؟
منذ وقت غير قصير، والإعلام الذي يواجه أزمات مهنية وأخلاقية ومالية، يبحث عن دعم مباشر له من قبل السلطة الحاكمة وقواها النافذة، سواء في الدولة أو القطاع الخاص.

ما جعل آلية التدقيق في عمل السلطات يقتصر على برامج «توك شو» حولت السياسيين والإعلاميين والناشطين إلى مهرجين، يتخانقون ويصرخون ويشتم بعضهم بعضاً، مقابل جمهور متعصب سياسياً أو طائفياً، بينما تعتبر الوسائل الإعلامية أنها ربحت في معركة نسب المشاهدة.
لكن الحديث ليس عاماً، مع أن واقع الإعلام اللبناني برمته بحاجة إلى نقاش. لكن هناك حاجة لمناقشة القنوات التلفزيونية التي لا تزال الوسائل الأكثر قرباً من الجمهور. حتى وسائل التواصل الاجتماعي لم تنفع لتكون بديلاً، بل هي تحولت أيضاً إلى سوق لتبادل الصراخ دونما أي نتيجة فعلية. والحديث عن القنوات التلفزيونية في لبنان، يعني الحديث عن مجموعة من العائلات القابضة على مؤسسات إعلامية. وغالبية هذه العائلات جاءت من عالم التجارة (آل الحريري، آل المر، آل خياط)، أو تكونت عبر إمساكها بالمحطات (آل الضاهر)، أو هي تتبع لقوى سياسية تمسك بحقيقتها («المنار»، «أن بي أن» و«أو تي في»). أما التلفزيون العام، فحاله كحال القطاع العام، يعاني كل أنواع الضائقة المالية والمهنية والشعبية أيضاً.

وبينما كان التنافس أمراً مشروعاً بين هذه القنوات التي تنجاز سياسياً هنا وهناك، إلا أن ثلاث قنوات حافظت على مسافة معينة، نتيجة أن أصحابها ليسوا منخرطين في قلب المؤسسة الحاكمة. كذلك فإنها محطات لا تدعي الحيادية الكاملة، لكنها تملك سلّم أولويات يتقلب بحسب الأحداث. وهي المؤسسة اللبنانية للإرسال، وقناة «الجديد» وقناة «المر تي في». هي محطات تدار من قبل مؤسسات عائلية، لديها حساباتها الخاصة والعامة، ولديها حساسياتها السياسية والاجتماعية والثقافية. وعندما تواجه هذه القنوات أزمات معينة، غالباً ما يتصل الأمر بأصحابها أكثر مما يتصل بعملها هي. وفي معارك الانجياز السياسي، يحصل أن يتحول تلفزيون «المر تي في» فجأة إلى نصير لرئيس المجلس النيابي في معركته مع قناة الجديد، أو أن تحاول المؤسسة اللبنانية للإرسال أن تلبس ثوب قناة العهد إذا كان في ذلك ما يساعدها على مواجهة حرب «القوات اللبنانية» عليها. أو أن تشهر قناة «الجديد» سيف الإصلاح الدستوري والسياسي والنيابي، إن تعطلت ملفات تخصّ أصحابها من قبل الرئيس بري.
أما عندما تندلع الحرب بين المحطات نفسها، فإن الشاشات تنضح بما تيسر من الشتائم والسباب كلما تعلق الأمر بخلاف حول أمر يتصل بترتيب الأكثر مشاهدة، أو ربطاً بتحيز محطة لهذه الجهة السياسية أو تلك. وهنا تحصل العجائب. ولا يكتفي المتحاربون بنشرات الأخبار، بل يلحقون بالناس إلى البرامج السياسية أو غير السياسية لأجل تفريغ شحنات غضبهم. ومع أن الناس غير معنية بحروبهم، إلا أنهم، بحكم دخولهم المفتوح إلى كل المنازل، يريدون إشراك الجمهور في المسرحية المستمرة منذ سنوات وبنجاح كبير.
فجأة يحل السلام والوئام، ويبقى على الجمهور البحث عن السر الذي يجمع الثلاثة بعضهم مع بعض، أو عن الترياق الذي يُنتج ــ فجأة ــ معايير «مهنية» موحدة، وما هو المشترك الذي يجعلهم يضعون خلافاتهم خلف ظهورهم. إنه الدولار يا عزيزي...
قبل عدة أسابيع، انطلق موسم الحصاد الإعلاني للانتخابات النيابية في لبنان. ولأن لهذه القنوات الحق في الحصول على حصتها من هذه الأموال، وجدت أنّ من الأفضل لها مجتمعة، أن تتفق على قواعد عمل مشتركة. وهو ما أفضت إليه الاتصالات بين ممثلين عن المحطات الثلاث. والقواعد منظمة في اتفاق غير مكتوب، يقضي بحجب الشاشات عن المعنيين بالانتخابات النيابية، إلا وفق بدل مالي واضح. وتم الاتفاق تدريجاً على منع أي ظهور سياسي على نشرات الأخبار وفي البرامج السياسية القائمة أو المستجدة بمناسبة الانتخابات، إلا مقابل بدل مالي. أما البث المباشر، فهو لم يعد متاحاً إلا لبضعة مواقع تخصّ الزعامات الكبرى في البلاد. لكن كل نشاط سياسي صار مدفوعاً ابتداءً من 21 شباط الماضي وحتى الرابع من أيار المقبل.
ولأن فنون هذه المحطات في استجلاب الأموال متنوعة، فقد جرى التوافق أيضاً على منع «المنافسة غير المشروعة»، بأن يصار إلى تسعيرة موحدة، مثل أن يكون ثمن الدقيقة ألف دولار في البث المباشر في غير أوقات الذروة، وأن يكون ثمن الدقيقة في نشرات الأخبار عشرة آلاف دولار أو عشرين ألف دولار، وأن يكون ثمن الدقيقة ألفي دولار في البرامج الصباحية، على أن يرتفع المبلغ كلما اقترب المرشحون من البرامج السياسية الأساسية. وجرى التفاهم على ما يُسمى «باقةَ الخدمات» التي تشمل تغطيات كاملة للمرشح، وتصل قيمتها إلى 250 ألف دولار (للمحطة الواحدة ــ والمرشح غير ملزم بالاتفاق مع القنوات الثلاث، بل «الشاطرة (منها) بشطارتها» في قطف المسابقين إلى النيابة). وبرغم أن الاتفاق الأولي بين المؤسسة اللبنانية للإرسال وقناة الجديد قضى بتحييد برامج «التوك شو» المسائية الرئيسية، لكن، بعد أن عمدت قناة الجديد إلى نقل مهرجان حزب الكتائب لإطلاق الماكينة الانتخابية، وامتنع بيار الضاهر عن نقله، انتهز الأخير الفرصة لتعديل الاتفاق من طرف واحد، فأدخل برنامج «كلام الناس» في البازار، مقدّماً للمرشحين باقة جديدة، قيمتها مليون دولار، تشمل تغطية شاملة للمرشح، ومشاركة في حلقة من «كلام الناس». طبعاً، هذا الأمر لا يشمل طوني فرنجية وتيمور جنبلاط ونهاد المشنوق، بل شخصيات كنعمة افرام وسركيس سركيس وميشال ضاهر وفؤاد مخزومي. وهو القرار الذي عاد وشمل برامج القناتين الأخريين، ما سبّب انزعاجاً لدى المقدمين، ولا سيما مرسال غانم. وكما لدى الضاهر استثناءات، كذلك لـ«الجديد» و«المر تي في» مرشحون يظهرون على الشاشة مجاناً. ولقناة «أم تي في» نقطة قوة يمكنها أن «تبيعها» للمتعطّشين لدخول البرلمان، من خلال منحهم فرصة المشاركة في واحد من برامجها غير السياسية التي تحظى بنسب مشاهدة عالية.
وهكذا انتهى الأمر، بربط كل نقاش جدي حول الانتخابات النيابية بقدرة المرشحين على الدفع. وهذا يعني أن الأفضلية صارت محكومة لمن بيده المال. وتحولت القنوات إلى «بائعات للهواء» خلال الحملة الانتخابية. وضاع الصوت المعارض. على أن الهوامش تسمح للقنوات الثلاث باستضافة أصوات لأجل الديكور فقط، أو إتاحة المجال أمام مرشحي «المجتمع المدني» – ما غيره – مجاناً أو مقابل بدل مالي صغير، لكن لوقت قصير جداً. وليس هناك من حل وسط!
الأكيد، أن هذه القنوات غير معنية بتبرير ما تقوم به. ومن الصعب توقع أن تعدّل من تلقاء نفسها هذه السياسات. ومثلما هي مستمرة في مخالفة دفاتر الشروط النموذجية لقيامها، فهي لن تخاف من أن تكون عرضة لأي نوع من المحاسبة، ما دام من بيدهم الأمر يحتاجونها الآن وكل ساعة قبل ذهاب الناس إلى صندوق الاقتراع.
لكن، هل في الدولة ــ المسخ، من يبادر إلى وضع حدّ لهذا التسيّب، وهل من أطر مهنية للإعلاميين قادرة على التحرك لمواجهة هذا النوع الجديد من الفلتان؟

المصدر: جريدة الأخبار - إبراهيم الأمين