إثر توقف الحرب الأهلية مطلع تسعينيات القرن الماضي، هاجر لبنانيون بحثاً عن ملاذ سياسي أو عن استقرار وظيفي أيضاً. غالبية هؤلاء كانت من قواعد قوى الكتائب والقوات اللبنانية والعونيين. لكن في الأعوام التي تلت، غادر لبنانيون، من البيئة الاجتماعية المقابلة، باحثين عن مصادر رزق، بعدما عطلت الحريرية السياسية الحياة الاقتصادية في لبنان لمصلحة طبقة من الريعيين.
وخلال فترة الإشراف السوري على تنفيذ الاتفاقية السورية ــ السعودية ــ الأميركية بشأن لبنان، تعرضت قوى بارزة في البلاد لإقصاء سياسي، لكنها لم تكن خارج الحصة الاقتصادية. كان رفيق الحريري، على الدوام، حارساً لمصالح اقتصادية تخصّ القوى «الخاسرة» في الحرب الأهلية. وهي القوى النافذة اقتصادياً والمسيطرة، حتى يومنا هذا، على قطاعات المصارف والخدمات والتجارة العامة، وتلعب دوراً سياسياً مباشراً. لكن الذي استجدّ بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، أن تياراً كبيراً، كان يتصرف على أساس أنه غير معنيّ بالدولة والقطاع العام، وهو يجد اليوم فرصة لاستعادة حضوره أو نفوذه. وهو العنوان الذي يشكل مادة الصراع الأساسي بين أركان الطبقة السياسية الحاكمة، خصوصاً بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» الساعيَين إلى «استرداد» ما «استولى» عليه المسلمون بعد توقف الحرب. وتتجلى المواجهة في كل المعارك القائمة الآن داخل الحكومة وخارجها. كذلك يسعى هذا التيار إلى تعزيز نفوذه داخل القطاع الخاص أيضاً، ما ينعكس حدة في الصراع على المشاريع والتلزيمات الكبرى في البلاد اليوم.
ومثلما كان الجميع يستثمر في الاغتراب اللبناني لتعزيز مواقع نفوذه في لبنان، فإن الفصل الجديد من الاشتباك، يشمل المغتربين أيضاً، من خلال عمليات سياسية تستهدف من جهة التعويض عن النقص في الناخبين (عند المسيحيين) أو زيادة عناصر القوة المالية (عند المسلمين). لكن المشكلة لا تنحصر في حماسة قسم من المغتربين للانخراط في هذه المعركة، بل في التصرف غير المسؤول من قبل القوى المحلية المستولية على مواقع الدولة، في استخدام كل الوسائل التي قد تودي بشبكة من المصالح التي بناها اللبنانيون في الخارج خلال مئة عام. علماً أن التصويت الأول للمغتربين في الانتخابات المقبلة، سيعكس حجم انخراط هؤلاء في معارك بيروت. وقد سجل نحو 85 ألف لبناني أسماءهم في السفارات اللبنانية، بينهم 45 ألف ناخب مسيحي ونحو 40 ألف ناخب مسلم. ومع أن الرقم لا يزيد على عدد الذين نُقلوا إلى لبنان في عام 2009 للتصويت، فإن نسبة الذين سيقترعون منهم في الانتخابات لا تزال مجهولة.
لكن هناك وجه آخر للمشكلة، يتجاوز لعبة الانتخابات. وهو يتصل بكون الانقسام السياسي في لبنان ينعكس على سلوك الدولة تجاه مصالح اللبنانيين في الخارج، ما يجعل قسماً غير قليل منهم بلا رعاية وبلا حصانة إزاء ما يتعرضون له من حصار وضغوط تقودها الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بمشاركة السعودية وحلفائها العرب. وهو حصار يستهدف طرد قسم كبير من اللبنانيين من مناطق استثمار اقتصادي في الخليج العربي وأفريقيا وأميركا الجنوبية، بحجة أنهم يساهمون في تمويل حزب الله.
ما حصل في المواجهة الأخيرة بين الرئيس نبيه بري والوزير جبران باسيل، وانعكس على مؤتمر الطاقة الاغتراببية في أبيدجان، كشف عن الاستخفاف وقلة المسؤولية في التعامل مع مصالح المغتربين هناك. إذ ترافق الأمر مع ارتفاع مستوى الضغوط الأميركية على حكومات دول كثيرة في أفريقيا للتضييق على رجال أعمال لبنانيين (ليسوا جميعاً من الشيعة)، بحجة أنهم يساندون حزب الله أو حلفاء لحزب الله. وكذلك في ارتفاع مستوى حضور الشركات الإسرائيلية في هذه الدول على شكل مستثمرين أو شركات اقتصادية، وصولاً إلى شركات تقدم خدمات أمنية. وتعززت الضغوط مع انخراط السعودية ودولة الإمارات العربية في هذه المعركة. وتنفق الدولتان على دول في غرب أفريقيا بهدف استمالتها لأسباب تتعلق بصراعهما مع قطر من جهة، وبهدف مواجهة إيران وحلفائها هناك من جهة أخرى. حتى إن الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير، لدول غرب أفريقيا، أظهرت الأهداف الحقيقية للرياض التي قال ممثلها إنها تريد من حكومات غرب أفريقيا مواجهة «الخطر الشيعي المتمثل بالنفوذ الإيراني وبالشيعة اللبنانيين الذين يناصرون حزب الله». وهي عبارة قالها الجبير حرفياً لمسؤولين بارزين في غرب أفريقيا، من الذين دعاهم إلى قمة سعودية ــ أفريقية يُعَدّ لها هذا العام في الرياض. مع الإشارة إلى أن الفريق اللوجستي والأمني الذي تولى ترتيب جولة الجبير هو فريق إسرائيلي ــ بمن في ذلك الحراس الأمنيون المباشرون ــ رتّب مواعيد سريعة مع رؤساء دول ومسؤولين كبار في هذه الدول.
تقاطع الضغوط الأميركية ــ الإسرائيلية ــ السعودية، مع خلافات المسؤولين اللبنانيين، دفع رئيس إحدى الدول إلى الاحتجاج على ما يقوم به اللبنانيون. وهو قال لزائر لبناني بارز: «بدل أن يأتي وزير خارجيتكم إلى هنا، لمعالجة المشكلات التي تواجهونها، ومساعدتنا في مواجهة الضغوط الغربية والخليجية ضد بعضكم، تراه يقاتل من أجل مؤتمر يهدف من خلاله إلى الانتصار على طرف لبناني آخر. وبدل أن تكون ردة الفعل من خلال توافق أبناء الجاليات، نرى لبنانيين يخرجون في الشوارع هنا، ويقومون بحركات كعناصر ميليشيا. وهم بذلك يؤكدون ما يقوله لنا الأميركيون من أنهم مقاتلون وليسوا رجال أعمال».
وقد وصل الأمر برئيس ساحل العاج إلى تحذير اللبنانيين الكثر في بلاده، من أنه سيلجأ إلى عقوبات قاسية. وطلب من وزارة داخليته إبلاغ من يحمل جنسية بلاده من اللبنانيين بأنه سيتعرض للسجن إن خرج إلى الشارع أو شارك في مواجهات سياسية. كذلك هدد من لا يحمل جنسية بلاده بالطرد إن حاول نقل مشكلات بلاده إلى حيث يعمل. وتبين لمرجعيات رفيعة المستوى أن هذه التهديدات جدية للغاية، وأن حكومة ساحل العاج أعدت قوائم باللبنانيين الذين تصادموا خلال المواجهة السياسية الأخيرة. بينما قال مسؤول رفيع في السنغال لدبلوماسي غربي «إن المسؤولين اللبنانيين، على اختلافهم، يتصرفون بطريقة تهدد وجودهم التاريخي في بلادنا».
وكشف الدبلوماسي الغربي أن المساعي الإسرائيلية تركز الآن على التعاون مع مستثمرين خليجيين، لإبعاد اللبنانيين نهائياً عن كل مناجم الألماس والذهب في أفريقيا، ولتخيير بعض أصحاب الشركات اللبنانية الكبرى، بين بيع حصص من أعمالهم إلى مستثمرين غربيين أو يهود، وبين أن يصار إلى اتهامهم بدعم الإرهاب وتعطيل كل أعمالهم. وكشف أن أي جهد حقيقي من جانب الحكومة اللبنانية لم يظهر على أرض الواقع، وأن خلافات اللبنانيين هي العنصر الأكثر تاثيراً في هذه المعركة. وتشعر حكومات دول غرب أفريقيا بأن اللبنانيين تُرِكوا لمصيرهم، وأن قادة لبنان يهتمون فقط بالحصول على أموال منهم ترهيباً أو ترغيباً.
رجال أعمال أو وشاة ومخبرون
بينما يعيش لبنان على وقع تهديدات أميركية بفرض المزيد من العقوبات بعنوان التضييق على حزب الله، أمكن جهاتٍ لبنانية رسمية ومراجعَ في القطاع المصرفي، معرفة أن الأميركيين يتحدثون عن قوائم بأسماء رجال أعمال لبنانيين، لا ينحصرون في الانتماء فقط إلى البيئة الطائفية والاجتماعية لحزب الله.
وبمعزل عن الشائعات الكبيرة المنتشرة، حول لوائح اسمية تخصّ بعض الأشخاص أو المصارف أو رجال الأعمال، إلا أن الأكيد أن الأميركيين ينشطون بصورة إضافية هذه الفترة، ويبدو أنهم يستعدون لموجة جديدة من الضغوط ويحاولون الاستفادة منها الآن للضغط على حزب الله وجمهوره وعلى حلفائه عشية الانتخابات النيابية.
وتبين أن الجانب الأميركي يستخدم معطيات يحصل عليها من مخبرين لبنانيين، بينهم رجال أعمال وآخرون في الدولة وفي القطاع المصرفي، بالإضافة إلى تعاون له طابعه الاستخباري. ونقل عن أحد رجال الأعمال أنه أثناء عبوره أحد المطارات العالمية، أُوقف لساعات، واكتشف أن من يحقق معه هم عملاء تابعون لعدة وكالات أمنية أميركية، وقد وجهوا إليه أسئلة كثيرة تتعلق بأشخاص وشركات.
وعندما جرى التدقيق أكثر، تبين أن بعض رجال الأعمال اللبنانيين قدموا، طوعاً أو تحت الضغط والترهيب، كمية لا بأس بها من المعلومات عن رجال أعمال آخرين. وأقرّ بعضهم بفعلته، مبرراً ذلك بالتعرض لتهديد أميركي واضح بتوجيه الضربة إليهم إن لم يتعاونوا مع الأجهزة الأميركية المعنية. إلا أن اللافت، تقاطع حديث رجال الأعمال والمصادر المصرفية، عند اسم أحد رجال الأعمال، بوصفه أحد المخبرين الرئيسيين للجانب الأميركي، وأنه قدم معلومات مفصلة، تخصّ أكثر من عشرين رجل أعمال لبنانيين ينشطون بين أفريقيا وأوروبا وآسيا. وأدت هذه المعلومات إلى تعريض هؤلاء ومصالحهم لأخطار كبيرة. حتى إن مصارف لبنانية، وأخرى أوروبية اعتذرت عن عدم التعاون مع هذه المجموعة من رجال الأعمال، بحجة تلقيها تحذيرات أميركية مباشرة. وبينما رفضت الجهات المعنية الكشف عن اسمه الكامل، لكن تقاطعت المصادر عند القول إن «الواشي» جنوبي من مدينة بنت جبيل، وتتركز أعماله في أفريقيا. وقد عمد في الفترة الأخيرة إلى رفع وتيرة زياراته لبيروت، حيث يتقرب من شخصيات في مركز القرار. وقالت إن رجال استخبارات أميركيين ينتمون إلى عدد غير قليل من الأجهزة الأميركية المعنية، قابلوا الرجل، كما آخرون في عواصم عدة، وإن بلاداً مثل رومانيا وتشيكيا وقبرص والمغرب وفرنسا وإيطاليا وكندا تشهد على هذه اللقاءات التي تتحول عملياً إلى جلسات استجواب وتهديدات مباشرة لكل من يرفض العمل مخبراً عند الأميركيين. كذلك يجري الحديث عن ثلاثة «وشاة» هم رجال أعمال، أحدهم شمالي بعيد عن الأضواء، والآخران ينشطان سياسياً، أحدهما من البقاع وثانيهما من المتن الشمالي.