ليس قليلاً عزوف الرئيس فؤاد السنيورة عن الترشّح لانتخابات ايار، ومغادرته صدارة تيار المستقبل وكتلته النيابية. بعد سقوط قوى 14 آذار، ها هو رأس حربتها يستكمل تجربة الخيبة والمراجعة النقدية، ويقرّر الإبتعاد والجلوس على شرفة التفرّج

قد لا يعكس وجود الرئيس فؤاد السنيورة في البرلمان طوال تسع سنوات بالضرورة تجربة مخضرمة في العمل داخل جدرانه، شأن ما يمكن ان يقال عن عبداللطيف الزين النائب بلا انقطاع منذ عام 1962، وبطرس حرب النائب منذ عام 1972 ما خلا دورة واحدة، وروبير غانم النائب منذ 1992 بلا انقطاع وآخرين كثيرين. بسبب تمديدين متلاحقين في الاعوام الخمسة الاخيرة، لبث ورفاقه في دورة 2009 تسع سنوات.

ليس صورة النائب الدائم، ولا يوافق على وصفه بنائب «شعبي». الا انه كان الوزير الدائم ما بين عامي 1992 و2004، والعامود الفقري في المعادلة السياسية الداخلية منذ عام 2005. لذلك ليس قليلاً القول ان خروجه من السلطة، للمرة الاولى مذذاك، ليس بلا مغاز مهمة. اهم سني حياته السياسية ما بين عامي 2005 و2008 احالته الصورة الوحيدة للشرعية اللبنانية المعترف بها من الخارج. مع انه يستخدم عبارة «الترس» الذي كان منذ ايام الرئيس رفيق الحريري، يصدّ عنه، وكان كذلك في مرحلة انقلاب قوى 14 آذار على سوريا وحلفائها في الداخل، الا ان الرجل يعبر الآن صحراء خيبة التجربة من معظم ما هو حوله. منذ تسوية 2016، لم تتغيّر الاحداث فحسب، بل الرجال ايضاً. مرحلة التنازلات لا التسوية، يقول.
مذ اعلن في 5 آذار 2018، عزوفه عن الترشّح، كثرت التكهنات عن دوره في المرحلة المقبلة. ضاعف من التكهنات ان رئيس الحكومة سعد الحريري زار السنيورة في منزله، عشية ذلك اليوم عائداً لتوّه من زيارة الرياض الاولى له مذ محنته هناك ما بين 3 تشرين الثاني و21 منه. طلب منه الترشح للانتخابات، فاستمهله الى الغد. اوحت الزيارة كما لو ان الحريري يرجع اليه برسالة من المملكة تعيد الاعتبار بعدما كثرت اشارات التلميح الى تهميش دوره. باعلانه عزوفه بدّد السنيورة الشكوك: لا رسالة ولا مَن يحزنون. طُرِح عليه الترشّح في بيروت او طرابلس او عكار ما دام المقعد السنّي الثاني في صيدا آيل الى خصم تيار المستقبل النائب السابق اسامة سعد، فرفض. اجتماعه بالحريري كان مقرّراً في الاول من آذار، وفق السيناريو نفسه الذي حصل مساء 4 آذار.

يزوره ويطلب منه الترشّح ـ وهو ما توخاه رئيس الحكومة ـ فيستمهله الجواب قبل ان يبادر، في اليوم نفسه، باعلان عزوفه المقرّر لديه سلفاً. منذ الخميس الاول من آذار كان قراره العزوف ببيان هو نفسه الذي ادلى به بعد اربعة ايام. بيد ان السفر المفاجىء للحريري الى الرياض ليل الاربعاء 28 شباط ارجأه.
للسنيورة ما يكفي من الحجج كي يستخلص انه يريد الاكتفاء بالتفرّج في المرحلة المقبلة:
1 ـ لم يُرد عام 2009 ـ وكان رئيس حكومة انتخابات ما بعد اتفاق الدوحة ـ الترشّح، الا ان الحريري اصرّ على خوضها مع النائبة بهية الحريري، بذريعة ان عدم ترشحه يتسبّب في فقدان تيار المستقبل المقعد الثاني. طوال تسع سنوات من نيابته ترأس كتلة نواب التيار، واحالها ماكنة منتظمة في اجتماعاتها وبياناتها الدورية، الا انه كان صدارة المواجهة مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ما بين عامي 2011 و2014، في غياب الحريري.
2 ـ في خمسٍ من الحكومات التي عُيّن فيها وزيراً للمال ما بين عامي 1992 و2004، لم يطلب من الحريري الاب سوى مرة واحدة ان يصير الى توزيره، في الحكومة الرابعة عام 2000، بعدما لمس محاولة تلفيق ملف مالي له بسوق اتهامات وملاحقته قضائياً، فاصرّ على خوض المواجهة من الداخل. بعد اغتيال الحريري الاب اصر عليه الابن ترؤس حكومة ما بعد انتخابات 2005.
3 ـ منذ اليوم الاول للتسوية السياسية المنبثقة من انتخاب الرئيس ميشال عون وقف ضدها وعارضها. صوّت بورقة بيضاء، وسلّم بالاقتراع وقال على الاثر في 31 تشرين الاول 2016: اصبح للبلاد رئيس للجمهورية. بيد ان ذلك لم يحجب معارضته التسوية لاسباب لا يزال يعتقد بأنها سارية: اولها، ان الرئيس الجديد لا يزال مسكوناً بهاجس رفضه اتفاق الطائف منذ المرة الاولى عام 1989، ثانيها، انه لما يزل اسير عقلية حكم الاقليات، ثالثها، لم يجد في ادارته صلاحياته ووزرائه انموذجاً سليماً للحكم بل ضاعف من وطأة المشكلات والملفات العالقة.
4 ـ انسجاماً مع رفضه التسوية تلك، منذ اليوم الاول، تيقن من حتمية رفضه كل ما ينبثق منها. كان على حق مع اقرار قانون انتخاب اعتبره مكملاً للمشروع الذي رفضه عام 2013، وهو الاقتراح الارثوذكسي، وندّد به في جلسات اللجان النيابية المشتركة ورفضه، وكان الحريري آنذاك خارج البلاد. ما يقوله السنيورة: لا يسعني ان اكون ضد القانون في صيدا، ومعه في بيروت او طرابلس او عكار عندما يطلبون لترشحي وهو القانون نفسه؟ لست مقتنعاً به، ولا اريد الدخول في لعبة الخناجر.
من دون ان يقتنع بصواب الترشّح في ظل القانون الحالي، رغم ان الحريري الاب الصيداوي، شأنه، ترشّح في بيروت مرتين عامي 1996 و2000، وكذلك فعل ابنه سعد مرتين عامي 2005 و2009، ومن قبلهما بعقود طويلة ترشح صيداويون في بيروت كالرئيس سامي الصلح، يضيف السنيورة: لا اريد منافسة احد آخر، ونحن في صحن واحد من ناخبينا. هل يُنتظر مني التسابق مع بهية الحريري على صوت من هنا او صوت من هناك؟ لو كان قانوناً مختلفاً بتصويت وطني، ربما زنت ترشيحي. قانون كهذا لا مكان لي فيه.
5 ـ عزوفه لا يجعله خارج العمل السياسي. لن يترأس كتلة المستقبل اذ لم يعد نائباً. لم يكن له يوماً موقع تنظيمي في تيار المستقبل، وإن هو يتصرّف على انه جزء لا يتجزأ منه.
6 ـ ليس خافياً التباين بينه والحريري. بدأ مع التسوية السياسية، واستمر مع قانون الانتخاب واسلوب مقاربة الملفات، ولم ينتهِ بمآخذه على خلفه بازاء مقاربته صلاحياته الدستورية والتهاون في دوره كرئيس الحكومة. الا انه يجزم: افضي اليه بذلك. لست ضده ولن اكون حتماً، ولا ضد تيار المستقبل. اريد ان ابتعد فقط.
يقر بأن ثمة جيلين مختلفين، وربما اكثر، في طريقة التفكير والتجريب: لكل رأيه واسلوبه وهو يقدّر ما ينبغي ان يفعل. جيل الاب يختلف عن جيل الابن.
ماذا يُسمى ذلك سوى الخيبة وقطع حساب السنوات الماضية؟

المصدر: جريدة الأخبار - نقولا ناصيف