خرج زياد عيتاني إلى الحرية. ما حكاية الدقائق الخمس الأولى التي انهار فيها؟ ما حقيقة اعتراف القرصان الإلكتروني بتشغيله من قبل المقدم سوزان الحاج؟ وما دامت الأدلة قاطعة على تورطها، فلماذا تمارس كل هذه الضغوط للإفراج عنها؟
دخل رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي العقيد خالد حمود ليَزُفَّ خبر إخلاء السبيل للموقوف زياد عيتاني في زنزانته الانفرادية من بعد ظُهر أمس. كان عيتاني يغسل ملابسه في غرفته في مبنى فرع المعلومات في ثكنة المقرّ العام في أوتيل ديو. لم يتمالك نفسه، فبكى فرحاً. عَلِم أنّ الأوان آنَ أخيراً لرفع ظُلمٍ يعيشه منذ أكثرِ من مئة يوم. هكذا خرج زياد عيتاني إلى الحرية.
أُخلي سبيله بحقٍّ من دون كفالة. لم يُترَك أو تُمنَع عنه المحاكمة، لكون قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا لم يُنهِ استجواباته بعد مع المقدم سوزان الحاج والقرصان الإلكتروني إيلي غ.، ورغم ذلك، لن يتغيّر في الأمر شيئاً. فالمعلومات تشير إلى أنّ القاضي أبو غيدا يتجه في قراره الظنّي الذي سيُصدره خلال أسبوع أو أكثر إلى منع المحاكمة عن عيتاني، لكونه ركَن إلى تحقيقات فرع المعلومات وإفادة إيلي غ. الذي استمع إليه، أول من أمس، لا إلى التحقيقات المجراة لدى جهاز أمن الدولة، لبتّ قبول إخلاء السبيل، تمهيداً لمنع المحاكمة وتبرئته من التُّهم المنسوبة إليه، بعدما تبيّن أنّ المقرصن المشتبه فيه إيلي غ. فبرك أدلة الاتهام.
لقد نُقل عيتاني إلى مبنى فرع المعلومات منذ ١٧ يوماً، ليبدأ محقّقو الفرع الغوص في ثغرات التحقيق الذي أُجري لدى أمن الدولة. أعيد استجوابه في الوقت الذي كان يجري التدقيق في الأدلة التقنية، ليتبيّن لمحققي الفرع أنّ هناك قرصاناً إلكترونياً اختلق أدلة الاتهام. وقد تبين أنّ القرصان متعاقد مع قوى الأمن الداخلي بصفة «عامل نظافة». هذه الصيغة اختلقتها المقدم الحاج لشرعنة عمله معها خلال وجودها في مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية.
القصة بدأت بعد توقيف إيلي غ. الذي كان يعمد إلى مهاجمة عدد من المواقع الرسمية. القاضي هاني حجار، وهو معاون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، أعطى إشارة بالتوقيف في ملف آخر. عُثر في حاسوب إيلي غ. على ملف يحمل اسم عيتاني، كان يتضمّن الاسم وكلمة المرور (nelly jaminson). هو الاسم الذي استُخدم لقرصنة حاسوب عيتاني. سئل إيلي عن هذا الملف (فولدر)، فأجاب بأنه يعمل مخبراً لدى أمن الدولة. لاحقاً، اكتشف المحققون أن الرسائل التي أرسلها القرصان عبر هذا الاسم إلى عيتاني لم يفتحها الأخير ولم يقرأها نهائياً ولم يعلم بوجودها، لكون المُرسل لم يكن من ضمن لائحة الأصدقاء على صفحته على فايسبوك. وقد اعترف القرصان بأنّه عمد إلى خرق حاسوب عيتاني بناءً على طلب المقدم الحاج للانتقام منه. وقد عُثر في هاتفه على رسائل صوتية ومحادثات مكتوبة مع الحاج تتعلق بعيتاني. وبحسب اعتراف إيلي غ. والأدلة لدى المحققين، يكون هو وسوزان قد فبركا ملفّاً بجرم التعامل مع إسرائيل لمواطن لبناني! هذا القرصان، بالتعاون مع المقدم، ضلّلا جهازاً أمنياً ودسّا أدلة مفبركة للإيقاع بمواطن بتهمة لا تُشبه أي تُهمة: العمالة للعدو، أي ما يعادل حبل المشنقة في أيّ دولة تحترم نفسها وشعبها.
لم يكن زياد عيتاني وحده الضحية. ذلك ليس استنتاجاً، بل هو مستند إلى وثائق رسمية. فمحاضر التحقيقات التي تربو على ٤٠٠ صفحة تزخر بـ«المآثر». من هجوم إلكتروني مركّز على حسابات وزير الداخلية نهاد المشنوق مروراً بمحاولة فبركة ملفّ تعامل آخر لصحافي وصولاً إلى فبركة جرائم بالجملة. وبحسب مصادر التحقيق، هناك عدد من الجرائم التي لم تقع فعلاً، دَفَع ثمنها أبرياء بتخطيط من القرصان والضابط. العسكري المتقاعد آيزاك دغيم (اتهم وسجن بتهمة العمالة) واحدٌ من هؤلاء الضحايا.
هنا، يجدر بالأجهزة الأمنية، وعلى رأسها فرع المعلومات، إعادة مراجعة جميع الملفات التي أشرفت عليها سوزان الحاج لكشف الارتكابات التي قامت بها عندما كانت على رأس مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية. ليس في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي فحسب، بل في جميع الأجهزة. كل هذا يخلق الشكّ في عشرات الملفات التي جرى فيها توقيف أشخاص اتّهموا بالعمالة والإرهاب ولا يزالون قيد التوقيف، لأنهم لم يجدوا من يلتفت إليهم في موسم الانتخابات أو لم تُسعفهم الصدفة أو سباق الأجهزة في كشف الفبركة، لا سيما أنّ هناك من يقول إنّ صراعاً محموماً بين الأجهزة قد يكون يقف خلف نصب الفخّ لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، سواء إطاحة الحاج أو ضرب صدقية جهاز أمني آخر، لكن الأصدق إنباءً هو الدليل الأقوى. وهنا تجزم مصادر التحقيق بتورّط الحاج، لكن المعلومات تتحدث عن ضغوط سياسية كبيرة تمارس على وزير الداخلية والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان وعلى قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا ومفوض الحكومة بيتر جرمانوس لترك الحاج بذريعة أنّها لم تعترف بما أُسند إليها.
أمس، أمر القاضي أبو غيدا بتخلية عيتاني وأصدر مذكرة توقيف في حق المقدم سوزان الحاج. فخرج زياد ترافقه ملابسات كثيرة. تحدث عن الدقائق الخمس الأولى التي اعترف خلالها من دون تعرّضه للضرب، لكنه لم يكشف تفاصيلها قائلاً إنها بحوزة أبو غيدا. إلا أن مصادر التحقيق كشفت أنّ عيتاني، عندما سأله محققو فرع المعلومات عن السبب الذي دفعه إلى اختلاق السيناريو الذي حبكه خلال التحقيق الأولي في أمن الدولة، أجاب بأنّ ضابطاً مفتول العضلات أدخله إلى غرفة جدرانها مدهونة بالأسود. طرحه أرضاً وداس على رقبته ثم هدّده قائلاً: «سأُحضِر ابنتك لفسخها أمامك إن لم تعترف». وأثناء وجوده على الأرض، لمح عيتاني ملفاً كُتب عليه أمن الدولة، فعلم أنّ لا مفرّ أمامه سوى الرضوخ لهم. عندها سرد عيتاني ما سرده. بهذا برر اختلاق السيناريو الذي ضمّنه فخاخاً لنقضها لاحقاً بسهولة أمام قاضي التحقيق. وعلى ذمة المصادر الأمنية والقضائية، أكد أنه لم يضرب «في الأيام الثلاثة الأولى». في اليوم الرابع، تعرض عيتاني للضرب. حجة المحققين أنه كان قد زوّدهم بمعلومات كاذبة.
بدا واضحاً أن عيتاني، ومنذ اليوم الأول لتوقيفه، قرر منح المحققين ما يُريدون. بدءاً من التحويلات المالية التي اخترعها وصولاً إلى الفيديو الجنسي الذي لم يُعثر عليه، وصولاً إلى التقارير التي كان يُرسلها، كما اختلق اسم كوليت من لا شيء. أما رسمها التشبيهي، فذكر أنّه تعمّد إعطاء المحققين رسماً لامرأة بعيبٍ خلقي في وجهها، بعدما كان قد شاهد فيلماً وثائقياً على قناة الجزيرة، ذُكر فيه أنّ العميل يُنتقى من دون علامة فارقة. ليس هذا فحسب، واحدة من الفضائح التي تضمنها الملف صور لأربع فتيات سُحبت عن الانترنت، إحداها لصحافية لبنانية وأخرى لزوجة كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة، دوّن المحققون أنّها «لمن يُعتقد أنّها تعود لكوليت»، عميلة الاستخبارات الإسرائيلية المزعومة.
وبالعودة إلى يوم أمس، فقد كان استثنائياً. بدأ باستجواب القاضي أبو غيدا للمقدم الحاج. استجواب زوجة شقيق النائب المستقبلي هادي حبيش، دام أربع ساعات، تمسّكت خلاله الضابط الموقوفة بإفادتها، منكرة كلّ ما نُسِب إليها. ترافق ذلك مع تداول معلومات تُفيد بأن أحد المقرّبين من الحاج عرض على زوجة القرصان الموقوف التراجع عن إفادته بشأن تورّط المقدم مقابل مبلغ مالي ووساطة للتخفيف من أمد محكوميته. وقد تقدم وكيل الحاج المحامي رشيد درباس بمذكرة يطلب فيها تأخير الاستجواب إلى حين بتّ قضية عيتاني، ويطالب باستجواب المحققين في جهاز أمن الدولة الذين أشرفوا على التحقيقات مع عيتاني. وبعد انتهاء جلسة الاستجواب، أعلن درباس أنّ موكّلته أنكرت كل ما وُجِّه إليها من تهم خلال التحقيق معها، وأن لا أدلة قاطعة تدينها.
ما هي إلا ساعات حتى أُعلِن خبر قبول إخلاء سبيل عيتاني، لتخرج بعدها سيارة تقل عيتاني من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. الكلمات الأولى التي نطق بها كانت: «ما في حدا انظلم بالبلد قدّي. فرع المعلومات أنقذ العهد من فضيحة. كيف ابن بيت العيتاني وابن بيروت بيُتّهم بأبشع تهمة؟». توجّه الموكب نحو بيت الوسط حيث كان الرئيس سعد الحريري في انتظاره بحضور والدة عيتاني. احتضن الخارج إلى الحرية والدته وبكيا أمام عدسات الكاميرا. جلس عيتاني في حضرة الحريري الذي خاطبه قائلاً: «في جهاز وصلته معلومات خاطئة بسبب وجود من يتلاعب بالمعلومات. كان في دسّ معلومات. مش الحق على الجهاز، الجهاز عم يقوم بشغلو وأي جهاز كان رح يتصرف بنفس الطريقة». برّأ الحريري جهاز أمن الدولة بهذه الكلمات، فيما كان زياد يهزّ رأسه إيجاباً. أكمل رئيس الحكومة: «القضاء اشتغل أكثر. في بعض الأخطاء صارت وجلّ من لا يُخطئ». انتهى اللقاء ليُكمل عيتاني طريقه إلى طريق الجديدة. الحيّ الذي تغيَّب عنه زياد لأكثر من أربعة أشهر، كان في انتظاره. أفراد عائلته كانوا يحصون الدقائق منذ الصباح. الانتظار ثقيل دائماً. بالنسبة إليهم، بحسب الأجهزة الأمنية والقضاء، وهي نفسها من اتّهم وبرّأ، زياد عيتاني بريء. والدته قالتها «مش لأنو ابني. زياد وُلِد من جديد». وصل عيتاني رافعاً شارة النصر، قبل أن يقول: «للحظة في الزنزانة الإفرادية، فقدت الأمل بالبلد كليّاً. الواحد بيضعف تحت الضغط. والمعلومات عند القاضي بو غيدا. ما تعرّضت له خطأ مقصود. والأخطاء يتحمّلها عدة أشخاص هناك». وصل بعدها وزير الداخلية نهاد المشنوق للمباركة لعيتاني ليكرر: «من أخطأ عليه أن يعتذر. هناك كثير من اللبنانيين صدّقوا ما قيل عن زياد وأنا واحد منهم». حضر بعدها الرئيس تمام سلام الذي أكّد ضرورة محاسبة من أساء لزياد.
أمس خرج زياد حرّاً بانتظار استكمال المحاكمة. عانق والدته وابنته، فغرّدت الإعلامية مي شدياق: «عسى إزالة الظلم عن زياد لا تُستتبع بظلم سيدة شرّفت السلك الأمني وهناك ثلاثة أطفال ينتظرون عناقها. فليُطلق سراح سوزان الحاج». تخيّلوا إن حصل ذلك فعلاً، فمن سيكون المجرم؟