تبدو مهمة الضالعين في رسم التحالفات الانتخابية مهمة شاقة. فإذا كان حزب الله وحركة أمل قد حسما مرشحيهما وتحالفاتهما باكراً، فإن القوى السياسية الأخرى لا تزال تستكشف الخطوات الضرورية قبل موعد إعلان اللوائح رسمياً
لكل طرف سياسي أولوياته الانتخابية، ولكل حزب أو تيار الدائرة التي يعوّل عليها لإظهار قوته السياسية، وهنا يكمن سر التحالفات السياسية التي تأخر إعلانها. فالرئيس سعد الحريري، وإن أعلن الدفعة الأولى من مرشحي تيار المستقبل، إلا أن هناك دفعة ثانية يحتاج الإفصاح عنها الى صياغة التحالفات بشكل نهائي مع التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.
ورغم أن مرشحي هذين الطرفين باتوا شبه معروفين، إلا أن اللحظات الأخيرة لصياغة التحالفات ترسم أيضاً معالم مختلفة استناداً الى الموجبات الضرورية لتأمين الفوز. وقد أظهرت مفاوضات الأيام الأخيرة المعطيات الآتية:
بين الدوائر الــ 15 لكل من القوى السياسية أولوية تطغى على الدوائر الأخرى، وحسابات انتخابية وسياسية ترسم لها خريطة المستقبل. يتشارك التيار والقوات مساحة جغرافية من كفرشيما الى الشمال الثالثة، كقاعدة سياسية أساسية لكليهما، إلا أن للطرفين حسابات مختلفة. أهمية الانتخابات بالنسبة الى التيار أن يحافظ على كتلته النيابية، لذا تأخذ التحالفات مع شخصيات سياسية معروفة، في كسروان مثلاً، طابع الضرورة القصوى. لكن يتحتم أيضاً على التيار الحفاظ على حصة نيابية من التيار الوطني، وعدم التراجع في عدد النواب في دوائر محددة عما حصّله عام 2009.
بهذا المعنى، تصبح بعبدا والمتن وكسروان – جبيل وصيدا ـــ جزين لأسباب سياسية بحتة ـــ متساوية في الأهمية، وإن كانت تتطلب مقاربات انتخابية مختلفة، إذا كان الهدف الحفاظ على نسبة فوز مرتفعة وإعادة إنتاج طبقة نيابية تدين بالولاء للتيار. لذا لا يمكن التقليل من أهمية معركة بعبدا النيابية، وبما تشكل من رمزية سياسية، ومن كونها خزاناً للتيار على مدى سنوات طويلة. فرغم أن التيار يبدو مرتاحاً فيها قياساً الى وجوده المزمن فيها، إلا أن التفاوت في دور نواب التكتل وحضورهم من جهة، والقانون النسبي من جهة أخرى، يضعان التيار في مواجهة صعبة لتأمين ثلاثة مقاعد مارونية، رغم التحالف المستمر مع حزب الله، ومن خلاله مع حركة أمل.
يضاف الى ذلك، وهذا الأهم، أن التيار يتوجس في بعبدا، من تكرار سيناريو عام 2009 حين تضافرت كل القوى السياسية في مواجهته. وإذا كان التيار ضامناً لمقعد نيابي حكماً، والقوات تتحدث عن سباق على المقعد الماروني الثاني مع أرجحية ضمانه لها، إلا أن احتمال تحالف القوات مع حزب الكتائب أو مستقلين، كما بدأ يحصل في دوائر أخرى، يمكن أن يضاعف المحاذير ويشكل خطراً على المقعد الماروني الثالث. لذا يعوّل على جهد مضاعف للتيار من أجل الإبقاء على حصته، ولا سيما في ضوء الضبابية التي تحيط إمكان تأييد قوى سياسية لها حضورها في بعبدا كحزب «وعد» مثلاً.
وإذا كانت معركة كسروان الطاغية اليوم، لأنها دائرة العماد ميشال عون الانتخابية، وتشكل تحدياً مارونياً في الدرجة الأولى، إلا أن ذلك لا يخفف من قساوة معركة جزين لأسباب تتعدى حضور التيار فيها، كونها تحوّلت إلى رمز للخلاف بينه وبين الرئيس نبيه بري، والمتن، لاسترجاع التيار حصته فيهما. وهما تختلفان من حيث إدارة التحالفات عن دوائر بيروت الأولى وزحلة وعكار والبقاع الشمالي، حيث لم يكن للتيار وجود فيها، ويريد منافسة غريمه الماروني كما الأطراف السياسية الأخرى.
فالغريم الماروني الآخر، أي القوات، التي اختارت يوم 14 آذار لإعلان مرشحيها، تراهن أيضاً على الأكل في الصحن ذاته للتيار. من الطبيعي أن تسعى القوات الى كتلة وازنة، لكن من المهم سياسياً بالنسبة إليها، بطبيعة الحال، إضعاف خصمها المسيحي، لاعتبارات تتعلق بالمرحلة المقبلة على المدى القريب حكومياً، وعلى المدى البعيد رئاسياً. وإذا كانت القوات تعتبر أن التيار تخلى عن التفاهم المكتوب بينهما بعد تولي عون رئاسة الجمهورية، تريد في ظل عدم الاتفاق الكامل انتخابياً بينهما أن تنتزع لنفسها حصة مسيحية، من حصة التيار الحالية، في المتن وبعبدا وجبيل وكسروان. وهنا تلتقي مصلحة القوات مع الكتائب.
لكن القوات تطمح أكثر الى تأكيد حضورها في دائرة الشمال الثالثة، مثلها مثل التيار وإن تفاوتت مواقعهما فيها، والبقاع الغربي والبقاع الشمالي، إضافة الى زحلة حيث تحاول استرجاع حصتها. في حين يمثل الشوف بالنسبة إليها ما تمثله جزين للتيار، مع اختلاف في نوعية العلاقة مع النائب وليد جنبلاط.
في المقلب الآخر، بات معروفاً أن الدوائر ذات الثقل السني كدائرتي الشمال الأولى والثانية تمثلان كبيروت الثانية مركزية انتخابية لتيار المستقبل، نظراً إلى حساسيتها الانتخابية في مواجهة زعامات سنية تقليدية وحديثة. لكن هذا لا يقلل من أهمية دوائر البقاع الغربي وزحلة والبقاع وصيدا – جزين، حيث يحاول تيار المستقبل عقد تحالفات فيها لتأمين كتلة نيابية لا يقل عددها عن 20 نائباً. فــ»المستقبل»، وإن تبدلت لهجته السياسية تجاه القوات اللبنانية بعد عودة الرئيس سعد الحريري من زيارته الأخيرة للسعودية، إلا أنه لم يغير في تكتيكه الانتخابي. وكما أبلغ السعوديين أنه مستمر في تفاهمه مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و»التيار الوطني»، إذا أراد البقاء رئيساً للحكومة، إلا أن ذلك لم يترجم بعد تفاهمات انتخابية. فالهدف الذي رسمه الحريري لتشكيل كتلة نيابية مختلطة بالمعايير الطائفية، في سلّم الأولويات، كما عبر عن ذلك بترشيحاته في طرابلس، ومن أجل ذلك لا يزال يعاند التيار والقوات على السواء. لم يتدخل «المستقبل» في بعبدا أو المتن أو كسروان، لكنه حريص على أن يكون شريكاً في الدوائر المختلطة، وفي الدوائر التي يعتقد أنه سيخسر مقعداً سنياً فيها، فيحاول تعويضه مسيحياً في الدائرة نفسها أو غيرها. هكذا هي حال دائرة صيدا ـــ جزين أو زحلة أو البقاع الغربي، أو بيروت الأولى التي يريد فيها مقاعد كاثوليكية ومارونية وأرمنية. وهو هنا يتشارك مع ثنائية حزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي في التطلع الى حصص مسيحية يتم تقديرها بين 13 إلى 16 نائباً على الأقل، مع ترجيح الأكثرية له، وحول هذه المقاعد تدور المفاوضات اليوم.
لكن لم يتم التقدم عملياً بين المستقبل والتيار الوطني الحر، في أي من الدوائر ولم يحسم تالياً أي تحالف انتخابي نهائي. وما حصل مع القوات في عاليه والشوف لا يمكن اعتباره تفاهماً عالي السقف، باعتبار أن المستفيد الأساسي منه كان جنبلاط. لأن الحوار الفعلي بدأ جدياً، حول الحصص المسيحية، وهذا تحدّ لن يستطيع التيار أو القوات القفز فوقه، من دون التسليم بهذه الحصص لحلفائهما.