ما أن تلفظ إسم إملي نصرالله حتى يتبادر إلى ذهن من حولك «طيور أيلول»… كأنّها الكلمة السحرية التي تختصر مساراً فريداً في الأدب اللبناني والعربي. إنّها تعود بنا إلى ذاكرة مدرسيّة تجمع بين بساطة المشاعر، وعفويّة التعبير، وأوهام البلاغة، والبراءة الأولى في النظرة إلى الأوطان والناس والعلاقات وأشياء الحياة.
تلك الرواية التأسيسيّة في مسار صاحبتها (1962)، هي من العلامات الفارقة في أدبنا «الكلاسيكي» بقوالبه الجماليّة وموضوعاته وأدواته، أدب ما قبل تجربة القطيعة والتمرّد والحداثة التي أبحرت بالسرد سنوات ضوئيّة بعيداً عن تركة مخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ومارون عبّود… وتلك المدرسة ربّما مثّلت املي نصرالله ـــ إلى جانب كتّاب آخرين مثل توفيق يوسف عوّاد ـــ ذروتها، وفي كل الأحوال حلقتها الأخيرة. ما جعلها تتربّع بجدارة في صدارة مناهج المرحلة الاعداديّة.
«طيور أيلول» لا يمكنها طبعاً أن تختصر تجربة إملي نصرالله، فقد تركت عشرات الروايات والقصص والأعمال الخاصة بالصغار، وتنقلت بين محطّات شهدت تطوّر أسلوبها السردي وتنوّعت مادتها الأدبيّة: من «شجرة الدفلى» (1968) و«الرهينة» (1974) إلى «الاقلاع عكس الزمن» (1981)، و«الجمر الغافي» (1995)، على مستوى الرواية. لكن ما يعطي الإنطباع بأنها صاحبة الرواية الواحدة، هو أن الكاتبة المعروفة التي طالما ردد اسمها التلامذة كطوطم يربطهم بالعصر، وسط صحراء مناهج تعود إلى زمن «سفر برلك»، تماهت مع تلك الذاكرة الريفيّة بالدرجة الأولى من خلال موضوعاتها الانسانيّة والاجتماعيّة، ومناخاتها الواقعيّة، ولغتها القريبة من ناس كل يوم، وأسلوبها الكلاسيكي، ومفرداتها المستقاة من البيئة اللبنانيّة كما عاشها ذلك الجيل المؤسس.
إملي نصرالله إبنة مرحلة مهمّة، تشكّل انعطافة في المسار الثقافي والسياسي والاجتماعي. مرحلة تستمدّ شرعيّتها غالباً من الجذور «الريفيّة»، من تلك المغامرة الكبرى التي هي تحصيل العلم لدى جيل منحدر من الأطراف، أبناء وبنات ثقافة زراعيّة وبيئة قرويّة، وطبقات دنيا بعيدة عن المركز. في هذا العالم يبدو حلم المعرفة والتعلّم، والكتابة والأدب، مرادفاً لحلم «الانعتاق» من البيئة الأولى، من دون التمرّد عليها، والهجرة إلى أنماط اجتماعية واقتصادية تمثّل الانفتاح والارتقاء. الهجرة من الريف إلى المدينة، أو الهجرة إلى أصقاع الإغتراب بحثاً عن نمط حياة جديدة. وفي هذا السياق، تكون ذروة الحريّة بالنسبة إلى امرأة شابة مثل إملي، هي «النزول» «وحدها» إلى المدينة ـــ «سيجرصك الناس» قالت لها صديقتها ـــ لتحصيل العلم، مع ما يشكّل ذلك من عصيان اجتماعي يتصادم مع السائد. كل هذه الثيمات شكلت جوهر تجربتها الأدبيّة.
هنا تبدو العلاقة عضويّة بين وعي الواقع واعادة صياغته أيديولوجيّاً… بين جماليّات الكتابة والنظرة إلى الذات والهويّة والوطن، وإلى الفرد في علاقته بالجماعة، وإلى المرأة وآفاق الحريّة، إلخ. وهنا تضيع الكرونولوجيا ولا يعود للزمن مفهوم خطي. مثلاً رواية ليلى بعلبكي «أنا أحيا» التي ظهرت قبل «طيور أيلول» بأربع سنوات، تبدو لاحقة عليها، لأنّها تنتمي إلى «زمن» مختلف، وتجربة «مدينيّة»، ووعي مغاير، قائم على تكريس القطيعة الوجوديّة والحسيّة والفكريّة والايديولوجية مع السائد. الكلام نفسه ينطبق على يوسف حبشي الأشقر الذي سيشرّع أبواب الرواية الجديدة.
أما «جيل» إملي نصرالله فقد شهد بزوغ المشاريع الكبرى، ما بعد الاستقلال، وتأسيس الثقافة الوطنيّة… وهو جيل لم يدخل دائرة التجاوز والتجريب والإباحيّة، ولم ينغمس في التجربة الوجوديّة التي تكرّست مع جيل السبعينيّات، بل بقي عند الأفق الواقعي والمحافظ والملتزم وحامل الرسالة التأسيسية، وتلفّع برومانسيّة أكيدة، وغنائيّة مترسّخة. وهذا بالذات ما يجعلها شعبيّة وقريبة من القلوب، وما يصنع اليوم كلاسيكيّة إملي نصرالله، ويجعلها في متناول الجميع: كل الفئات والأجيال والمناطق والخنادق، القارئ العادي والمثقف الطليعي على حد سواء. في هذا السياق كرّمها رئيس الجمهوريّة قبل شهر ونيّف كرمز من رموز الوحدة الأهليّة، وككاتبة وطنيّة بامتياز، ستبقى في ذاكرة الأجيال المقبلة، مرجعاً ومدرسة أدبيّة قوامها لغة أصيلة وقوالب وبنى بسيطة، إنما حاملة المعنى ومحتضنة الروح.
إملي نصرالله هي أم الرواية اللبنانيّة بامتياز. في زمن تعب الشعب اللبناني فيه من الآباء الذين يقودون الحروب، وبات بحاجة ماسة للعودة إلى حضن الأم، حضن اللغة، حضن العروبة الحضاريّة الجامعة. يتحلّق اليوم حول أم الرواية اللبنانية لوداعها، أبناء وبنات يكتبون ويحلمون بطريقة مختلفة، وأحفاد أشقياء ومشاكسون. حركيّة الأبداع أيضاً تخضع لسنّة الطبيعة!