ولدت الأمانة العامة لقوى 14 آذار في ربيع عام 2008، بلا إعلان، وطويت صفحتها في عام 2017 بلا إعلان. هكذا يأتي الرابع عشر من آذار 2018 يتيماً، وقد تشتّت جمع أمانته العامة وصاروا كلهم أيتاماً في انتظار مأوى سياسي جديد
على مدى عقد من الزمن، كان موعد الاجتماع الأسبوعي للأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار شبه ثابت كل أربعاء. يلتقي ممثلو الأحزاب و»المستقلون». ديوانية قهوة ودخان وثرثرة سياسيىة وبيان دوري «لا علاقة له بالنقاشات» يوزع بالفاكس أو بالإيميلات. سفرات وتنقلات وشقة وميزانية حريرية سرعان ما تبخّرت.
قبل فترة وجيزة من انتهاء عقد إيجار مقر الأمانة العامة في الطابق الارضي من أحد مباني الاشرفية القديمة، قصد منسّق الأمانة فارس سعيد بيت سعد الحريري لسؤاله عمّا إذا ما كان في وارد تجديد العقد، خصوصاً أن المقر كان مؤجّراً من قبل لتيار المستقبل. بالتأكيد أجابه الحريري. لكن انقضت المدة وتكررت المراجعات ولم تسدد المستحقات. فهم «الرفاق»، وأوّلهم فارس سعيد، الرسالة. أخلي المكان، وكان هو آخر من أقفل الباب على حقبة أراد خلالها أن يكون صانع تحولات في لبنان وسوريا والمنطقة، إذا بسلّته فارغة إلا من الخيبات.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وغداة تظاهرة الرابع عشر من آذار، ولد مصطلح «14 آذار»، وشكّل الثامن من آذار رافعته الأساسية، يوم نزل حلفاء سوريا إلى ساحة رياض الصلح وقالوا بالصوت العالي «شكراً سوريا»، قبل أن تسحب قواتها من لبنان. لعب الثلاثي سمير فرنجية وفارس سعيد ووائل أبو فاعور دوراً بارزاً في الحثّ على تنظيم صفوف قوى 14 آذار وخلق أمانة عامة، ولقي اقتراح الياس عطاالله بتعيين فارس سعيد منسّقاً عاماً إجماع قوى وشخصيات 14 آذار. لاحقاً، راقت فكرة المقر الحريري، فموّلها حتى الأمس القريب.
كانت المرة الاولى التي تزور الكتائب والقوات اللبنانية قصر قريطم، بعد ظهر يوم الرابع عشر من شباط 2005. فتحت أبواب القصر أمام زائرين محليين ودوليين كثر. كان التيار الوطني الحر جزءاً من لقاء البريستول ثم 14 آذار، ولو أن حضوره لم يكن وازناً بالنسبة إلى الآخرين. أمسك وليد جنبلاط بناصية القرار الحريري، مستفيداً من وهج قرنة شهوان وحضورها على يمينه وعلى يمين الحريري الابن سياسياً، وبقوة دفع استثنائية من الأميركيين وسفراء غربيين آخرين في العاصمة اللبنانية، حتى إن السفير الروسي في تلك المرحلة، الراحل سيرغي بوكين، كان أقرب إلى مزاج هذه القوى... سياسياً.
يقول أحد الأعضاء السابقين في الأمانة العامة «أردناها مساحة مشتركة للتنسيق بين الاحزاب، وأن تكون، في الوقت نفسه، بيت القوى التي لا بيت لها من المستقلين»، غير أنها تحولت الى ناد سياسي لا يمتّ بصلة إلى الواقع...
لماذا؟ يجيب «هي المشكلة ذاتها التي واجهها المستقلون في قرنة شهوان ثم عادوا واصطدموا بها في الأمانة العامة، وهي هيمنة الاحزاب السياسية الاساسية (المستقبل والاشتراكي والقوات والكتائب) ومحاولتها الاستفراد بالمشهد السياسي العام وتهميش الآخرين من دون استثناء».
من قرنة شهوان، انتقل سمير فرنجية وفارس سعيد الى الأمانة العامة، ناقلَين معهما، الى جانب ممثلي الاحزاب، شخصيات «مستقلة»، بعضها يأتي من منابت يسارية (نموذج الياس عطاالله والراحل نصير الأسعد).
وما ينطبق على ما يسمى «اليسار»، يسري أيضاً على شخصيات في 14 آذار وأمانتها العامة، كان لـ»المرحلة السورية» فضل اكتشافهم وتظهيرهم ونفخهم ونيلهم بعض مكاسب ما سموه «حقبة الوصاية»، بعد انقلابهم على سوريا.
عند ذكر الأمانة العامة يتبادر الى الذهن فوراً اسما النائبين السابقين المرحوم سمير فرنجية «عميد الأمانة والمخطط الحكيم والعاقل»، وفارس سعيد المنسّق العام، صاحب تعبير «انتفاضة الاستقلال». منذ ولادة قرنة شهوان، كانا يحاولان الظهور بمظهر القيّمين على «الخطاب السيادي». يتولى سمير فرنجية كتابة البيان ويمرره الى الاعلام بمعزل عن مصادقته من قبل الآخرين. كان هامش التحرك في قرنة شهوان أوسع بالنسبة اليهما، ذلك أنهما كانا على خلاف مع كل مكوّنات السلطة يومها، ورغم ذلك كان اللقاء يحرص على تحييد رفيق الحريري ووليد جنبلاط، بوصفهما شريكين ضمنيين.
عند انطلاقتها، شهدت اجتماعات الامانة العامة زخماً في حضور كان يقوى أو يضعف حسب الظروف. منهم من حضر الى الامانة العامة ناشطاً سياسياً، صحافياً أو محامياً أو عاطلاً من العمل، وغادرها طامحاً الى مقعد نيابي أو وزاري أو قيادة ثورات العالم.
وبشهادة أحد أعضائها «كانت الامانة العامة محاولة لاختراق تقاطع طرق بين فرقاء انتفاضة 14 آذار. لكن هذا لا يعني أن القرار كان موجوداً داخل اجتماع مكوناتها، بل كان يطبخ قبل ليلة من إعلانه، عبر مراسلات بين ناطور 14 آذار (فارس سعيد) والفرقاء الاساسيين، ويتولى تيار المستقبل تحديد الخطوط السياسية الحمراء.
فضلاً عن ذلك، شهدت الأمانة العامة ارتجاجات داخلية أثرت على حضورها، إذ لم يمض وقت طويل على نشأتها حتى سحب «الاشتراكي ممثله منها، وبعد بفترة، اختلفت القوات والكتائب على إدارة الامانة العامة، فسحب حزب الكتائب ممثليه لشعوره بأنه يعامل ضمن فئة «الصف الثاني». لاحقاً، ونتيجة خلاف المكونات المسيحية، وُلد ما يسمى «المجلس الوطني»، ولكنه سرعان ما فشل، بسبب غياب الوهج والجاذبية وفراغ الشعارات واختلاط الطموحات الشخصية باعتبارات سياسية ومادية، فضلاً عن عدم رغبة القوات والكتائب في نشوء أيّ حيثيات سياسية مسيحية، خصوصاً بعنوان «المستقلين».
قبل شهرين، رسم فارس سعيد حلماً جديداً لنفسه. تزامن «الحلم» مع حماسته الاستثنائية للسعوديين من جهة وتلقُّف السعوديين بعض «وصفاته» من جهة ثانية. يتردد أنه أحد من حرضوا على سيناريو «إقالة» سعد الحريري. في كل الأحوال، استأجر سعيد مكتباً في المبنى المقابل لمقر الامانة العامة القديم. انتقل اليه وبعض موظفي الامانة العامة، ونقل اليه أثاث المكتب القديم وصور الشهداء، وتلك اللوحة التي توثق مشهدية الرابع عشر من آذار، وصار مكاناً يتداعى اليه عدد من السياسيين غير المحازبين، مع ملاحظة غياب عناصر الحماية الأمنية الرسمية (قوى الامن الداخلي) عن مدخله.
هل هي محاولة لإحياء الأمانة العامة؟ يجيب أحد زوار اللقاء «إحياء الأمانة العامة مجدداً يبدو كمن يحاول إحياء حزب الأحرار»!
فشلنا...
في مكاتب عدد من رموز قوى الرابع عشر من آذار قاسم مشترك؛ صورة الحشد الذي احتضنته ساحة الشهداء في ذاك التاريخ تزين الجدران، والوشاح الأبيض والأحمر الذي التف حول الأعناق لسنوات قبل أن يغدو خرقة قماش رميت في الأدراج أو علقها بعضهم على الجدران شاهداً على زمن ولّى. في 14 آذار 2018، وباستثناء احتفالية القوات اللبنانية الانتخابية، صار التاريخ عادياً، يشبه ما قبله وما بعده. ولّى زمن الاحتفالات، وانفضّ عقد رواد المنابر المتسابقين على الخطابات الرنانة.
نعم، تحول هذا التاريخ «الى مجرد ذكرى لا أكثر»، يقول أمين سر قرنة شهوان سمير عبدالملك، وهو كان من أوائل المنظّرين للرابع عشر من آذار، قبل أن ينسحب بهدوئه المعتاد، «لأن 14 آذار كانت عبارة عن لحظة دخلت التاريخ، يومَ عبّر الناس عن غضبهم، فنزلوا إلى الساحات ليقولوا كفى. هذه اللحظة التاريخية لا تعود ملكيتها لأي شخصية سياسية ولا لأي حزب. لا أعلم إن كان يمكن لتلك اللحظة أن تتكرر، لكن مجرد أنها حصلت مرة، فالاحتمال وارد».
ولادة 14 آذار غير محصورة بلحظة استشهاد الرئيس رفيق الحريري، حسب عبدالملك. «عملنا 5 سنوات في قرنة شهوان على تمتين الوحدة الداخلية، الى أن أتت لحظة 14 آذار التي لم تولد من العدم، بل احتضنها بطريرك تاريخي هو البطريرك نصرالله صفير، ولكنهم هدروا تلك اللحظة يوم صعدوا الى المنابر وبدأوا لاحقاً رحلة تقاسم الحصص».
يستغرب عبدالملك تباكي البعض على الذكرى، في حين أنه «كان جزءاً من السلطة، ولو حاول القول إنه تمايز عن الآخرين». في اعتقاده أن كل «القوى السياسية فشلت في ترجمة شعارات 14 آذار والأمانة العامة خلقت أسباباً تخفيفية لهذا الفشل»، وبعد الأمانة العامة «كانت عملية الهروب الى الأمام من خلال إنشاء مجلس وطني ولد ميتاً وبلا مراسم دفن».
حلف ماروني ــ علوي
في عز أيام قرنة شهوان، يروي أحد المؤسّسين أن الاتصالات لم تنقطع يوماً مع حزب الله أو مع السوريين «كلما كنا نسأل عن الراحل سمير فرنجية، كانوا يقولون إنه في اجتماع مع السيد حسن نصرالله في الضاحية».
وفي أواخر التسعينيات، حصل تبادل أوراق للحوار بين «القرنة» والسوريين، قبل أن يدخل رفيق الحريري على الخط، فتوجه إلى دمشق شاكياً من قيام حلف ماروني ــ علوي، ما استدعى زيارة قام بها نائب الرئيس السوري (وقتذاك) عبد الحليم خدام، أعلن خلالها من قصر بعبدا أن العلاقة بين البلدين هي علاقة دولة لدولة.