دأبت قوى السلطة على ممارسة الزبائنية السياسية بأشكال مختلفة. آخر إبداعاتها، تضمين مشروع قانون موازنة 2018 نحو 17 مادة قانونية تتعلق بإعفاءات ضريبية من أصل 20 تعديلاً ضريبياً أُدرج في المشروع. الخطير في هذا الأمر أن هذه الإعفاءات التي يفترض أنها استثنائية، تحوّلت إلى نمط تمارسه السلطة دائماً للرشوة الجماعية فتكافئ المتهرّبين الذين يتسوّلون هذه الإعفاءات مقابل الولاء وتقديم الطاعة فيصبحوا في عين القانون متساوين بأولئك المنتظمين في تسديد ضرائبهم

على عجل، أقرّ مجلس الوزراء مشروع قانون موازنة 2018 وأحاله على المجلس النيابي. تضمّن المشروع إعفاءات ضريبية بالجملة أدرجت في الفصل الثالث الذي يأتي تحت عنوان «تعديلات ضريبية». في هذا الفصل 20 مادة، من بينها 17 مادة تتحدث عن إعفاءات وتسويات ضريبية مختلفة.

الأسباب الموجبة لهذه الإعفاءات والتسويات، أنها تحفّز الإيرادات التي تحتاج إليها الخزينة لتجميل حساباتها وخفض العجز، لكن الأرقام الواردة في الجداول المرفقة لمشروع الموازنة، تشير إلى أن الهدف أبعد من ذلك. فالإيرادات الإضافية المقدّرة في هذه الموازنة تزيد على 800 مليون دولار منها نحو 200 مليون فقط من التسويات والإعفاء من الغرامات، ما يثير التساؤلات عن الأهداف الحقيقية وراء إقرار إعفاءات من هذا النوع قبل الانتخابات النيابية مباشرة.

إعفاءات بالجملة

أخطر ما في المواد الـ17 هي المادة التي تتعلق بـ«السماح للمكلفين إجراء تسوية ضريبية». هذه المادة تضرب قانون ضريبة الدخل في أساسه، إذ إنها تتيح للمكلفين بشقيهم المكتومين والمسجلين، تسوية أوضاعهم وإعفاءهم من كل عمليات التدقيق التي يفترض أن تقوم بها الإدارة الضريبية. تشمل هذه التسوية أرباح المهن الصناعية والتجارية وغير التجارية وضريبة الباب الثاني (ضريبة الدخل)، وهي تحدّد قيمة التسوية بـ1% من حجم الأعمال المصرح به للمؤسسات التجارية والخدماتية وسائر المكلفين، وبـ0.5% من أعمال المؤسسات الصناعية، وبنسبة 5% من مجموع الإيرادات المصرّح بها للمصارف والمؤسسات المالية محسوماً منها الفوائد.

صالح: لا مبرر للتسويات

اللافت للانتباه أن الفترة الزمنية الخاضعة للتسوية هي من 2011 إلى 2016 للمؤسسات المكتومة، ومن 2013 إلى 2016 للمكلفين المسجلين. هذه الفترة بالتحديد تخلق ارتياباً لدى مدير المؤسسة اللبنانية للخدمة الضريبية أمين صالح، لأنه في المبدأ «ليس هناك مبرّر اقتصادي لهذه التسوية في هذه السنوات المحدّدة، إلا إذا نظرنا إلى هذا الأمر من زاوية الهندسات المالية التي نفذت في عام 2016. أي مصرف لم يدفع ما يتوجب عليه من ضريبة، أو أي خطأ في الحسابات بات اليوم خاضعاً للتسوية».
والشق الثاني من هذه التسوية المتعلق بالشركات المكتومة مقلق «لأن بإمكان أي متخلف عن سداد الضريبة أن يدفع مبلغاً مقطوعاً وتشطب كل المطلوبات المسجلة عليه في السنوات الخاضعة للتسوية، لا بل يمكن المكلف أن يختار السنوات التي يرغب في الاستفادة عنها، وتعتبر التسوية بمثابة براءة ذمة» يضيف صالح.
الخطورة لا تكمن في نص هذه المادة حصراً، بل أيضاً بما تلاها من نصوص تتعلق بالتسويات والإعفاءات. فقد نصّت مادة أخرى على خفض غرامات التحقق والتحصيل التي تتولى المديرية العامة للمالية فرضها وجبايتها على أن يكون الخفض بنسبة 100% و90% تبعاً لنوع المخالفة وطبيعة الشركة.
كذلك خُفضَت الغرامات المتوجبة على متأخرات أوامر التحصيل التي تصدرها المؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات وسائر أشخاص القانون العام، بنسبة 90%. وينسحب هذا الخفض على غرامات رسوم الميكانيك، وعلى الرسوم البلدية، والرسوم المتوجبة للبلديات على المؤسسات السياحية.

مهلة إضافية للاعتراض

وبشكل غير مسبوق، تقرّر إعطاء مهلة إضافية للاعتراض على الضرائب والرسوم التي تحققها المديرية العامة للمالية، ثم ورد في مادة أخرى أنه يمكن تسوية التكاليف المتعلقة بالضريبة على الدخل وضريبة القيمة المضافة المقدمة أمام لجان الاعتراض! سلوك عجيب من الحكومة التي تمدّد مهلة الاعتراض من أجل إعفاء المعترضين.
لم تعد هذه التسويات والإعفاءات مجرّد إجراءات استثنائية تفرضها الظروف الاقتصادية، بل تحوّلت إلى سلوك ونمط تمارسه قوى السلطة لمصلحة شركائها من أصحاب رؤوس الأموال. فقد تبيّن بحسب مصادر مطلعة أن غالبية هذه الإعفاءات اقترحتها «الهيئات الاقتصادية»، أي إنها تأتي بطلب من الشريك المالي لقوى السلطة، وهو الشريك الذي يموّل حملات السياسيين الانتخابية ويحقق رغباتهم المالية ويتقاسم معهم الأرباح. فالإجراءات المقترحة تضرب الهدف الذي قصده المشرّع من وراء إخضاع المتخلفين عن سداد الضريبة إلى غرامات، وتتيح للمخالفين مواصلة مخالفاتهم بما يؤدي حكماً إلى الإضرار بالقطاع العام وبمصالح المكلفين الذين يسدّدون ضرائبهم بانتظام.ويقول صالح إن «ما يحصل عملياً هو عملية قوننة للتهرّب الضريبي»، وهذه العملية «تخالف الدستور لأنها تخلّ بمبدأي «الإنصاف والعدالة» و«الواجبات والحقوق». والأخطر أن التسويات المقترحة ليس لها أي مبرّر اقتصادي وهي تساوي ببين الملتزمين والمتهربين. هذه التسوية تخفي أكبر عملية تهرب ضريبي لأنها من جهة تفتح الباب أمام التهرّب ثم تعطّل عملية التدقيق الضريبي بملفات المكلفين».
في الواقع، إن هذه الإجراءات ليست كل ما ورد في مشروع قانون الموازنة، فهناك أيضاً مجموعة إجراءات كاسرة للقوانين الضريبية والتوازن بين المكلفين. ففي مقابل إعفاء الشركات وكبار المكلفين من الغرامات وفتح الباب أمام تسوية مخالفاتهم بمبالغ زهيدة قياساً على ما يمكن أن يترتب عليهم، تبيّن أن المستخدمين والأجراء والعمال، وهم الفئة الأكثر تهميشاً والأكثر ضعفاً، أعفوا من الغرامات من دون فتح الباب أمامهم للاستفادة من تسوية ضرائبهم. «التسويات لناس بسمنة وناس بزيت» يقول صالح.

خفض رسوم التسجيل العقاري

وهناك مشكلة أخرى تتعلق بقطاع العقارات، وهو القطاع الذي حقق أرباحاً طائلة على مدّ السنوات الماضية من دون أن تتمكن الدولة من إعادة توزيعها أو المسّ بأي جزء منها. اليوم، قرّرت هذه السلطة، وبشكل عشوائي غير مدروس أن تخفض رسوم التسجيل العقاري من 5.1% إلى 3% من أجل تحفيز المبيعات العقارية. هذا الخفض جاء باقتراح من مستشار رئيس الحكومة نبيل يموت الذي يمثّل مصالح كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال، إلا أن النقاش في مجلس الوزراء لم يأخذ بالاعتبار أن خفض رسم التسجيل سينعكس سلباً على الإيرادات المحصلة من عمليات التسجيل على مدى السنة، إذ تبيّن أن الإيرادات ستنخفض بقيمة 100 مليار ليرة. أما المعترضون فهم يأملون أن يجذب هذا الأمر عمليات تسجيل إضافية كانت مختبئة وراء عقود البيع الممسوحة التي تخدم 10 سنوات، والوكالات غير القابلة للعزل التي تشكّل إحدى أبرز أدوات تجار العقارات والمضاربين للتهرّب من التسجيل. ألم يكن أفضل أن يمنع بيع العقارات بطريقة الوكالات، وأن تخفض مدّة عقود البيع الممسوحة لأشهر؟

إغراء العرب والأجانب بالإقامة اللبنانية

وفي خطوة جرت بناءً على اقتراح من تجار العقارات ومن غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان، تقرّر أن يمنح كل عربي أو أجنبي يشتري وحدة سكنية في لبنان ضمن شروط محدّدة «إقامة دائمة له ولزوجته وأولاده القاصرين» شرط ألّا تقل قيمة الشقة المبيعة عن 1.5 مليار ليرة في بيروت، و750 مليون ليرة في المناطق. يثير هذا الاقتراح سؤالاً أساسياً: هل الإقامة اللبنانية مغرية للعرب والأجانب أم أنهم يحصلون عليها عند دخول المطار؟

إعفاءات تطاول الضمان

وردت في مشروع قانون موازنة 2018 مادتان تتعلقان بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وكلتاهما تضر بإيرادات الضمان لمصلحة المدارس والشركات المتخلفة عن تسديد الضريبة. فقد تبيّن أن هناك مادة تنص على ألا تدخل قيمة الدرجات الاستثنائية التي حصل عليها أفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة في الملاك بموجب القانون 46 في احتساب الاشتراكات المتوجبة للصندوق، أي إنّ المدارس أُعفيَت من تسديد الاشتراكات. كذلك تقول مادة ثانية إنه يمكن خفض الغرامات المترتبة عن متأخرات الصندوق بنسبة 90% وتقسيطها لمدة 5 سنوات بفائدة 5% سنوياً. العجلة صفة ملازمة لهذا المشروع من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب بحجّة أن إقرار الموازنة «شرط» لمؤتمر باريس 4، فهل ستدخل لجنة المال والموازنة النيابية في بازار الانتخابات والرشوة السياسية أم أنها ستعمل أيضاً تحت ضغط المؤتمر؟

المصدر: جريدة الأخبار - محمد وهبة