يفرض فصل النيابة عن الوزارة نفسه، عرفاً جديداً ليطبّق من الآن على حكومات ما بعد الانتخابات، إن تعذّر في الحكومة الأولى للعهد. حسابات وتوازنات بين القوى وداخلها، تحكم عملية تمييز المرشّحين للنّيابة عن أولئك المرشّحين للتوزير، لكن تصب كلّها في سياق تطوير القوى السياسية لـ«تقنياتها» في تقاسم الحصص والنفوذ
تتسابق القوى السياسيّة، اليوم، على التحضير لصورتها الجديدة صبيحة 7 أيار 2018، على قاعدة أن «التغيير» بات مطلوباً بعد الانتخابات النيابية. لكن التدقيق في الأسباب الموجبة لـ«التغيير»، يبيّن وجود اعتبارات متناقضة. هناك من يؤمن مثلاً بفصل النيابة عن الوزارة ويضمّن ذلك في كل برامجه السياسية والانتخابية، وهناك من يطرح الشعار تبعاً لصياغات وأدوار وتوازنات.
صحيح أن النائب لم يعد بمقدوره الاستمرار بالمهمات التي يقوم بها منذ تأسيس لبنان، وكذلك لم يعد ممكناً للعمل الوزاري أن يستمر بالشكل التقليدي الذي اعتاده الوزراء في معظم حكومات ما بعد الاستقلال حتى يومنا هذا. ليس ذلك من باب التطوّر الذاتي فحسب، إنّما تفرضه ضرورات التكيّف مع الظروف الموضوعية الجديدة.
في مقابل هذا التطلب التقني، لا ينبغي إهمال الحسابات السياسية، وربما تكون هي الأساس من وراء الإشهار المفاجئ لسلاح فصل النيابة عن الوزارة، وإلا كيف يمكن تفسير تحول مطلب فصل النيابة عن الوزارة إلى «حاجة ملحّة» عند عدد من القوى اللبنانية؟
نموذج حزب الله
حزب الله هو الهيكل التنظيمي والسياسي الأكثر مهنيّة في البلاد، ويعي تماماً ضرورة توزيع العمل العادل على الأفراد، حتى يأتي بنتيجة. هذا الأمر، أوضحه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، حين شرح الأسباب التي دفعت الحزب إلى حجز مكان للوزير محمد فنيش في الحكومة المقبلة منذ الآن، وتكليف آخر بمقعده النيابي في دائرة الجنوب الثالثة، حتى يتمكّن كلّ منهما من النجاح في موقعه بالتوازي. وفي المقابل، حسم أنه لن يكون من الممكن توزير أي من نواب الحزب.
عون يمهد لرئاسة باسيل
خطوة حزب الله، فكرة قديمة عند الرئيس ميشال عون، الذي سبق أن أعدّ مشروعاً لقانون فصل النيابة عن الوزارة، وبات يكررها رموز التيار الوطني الحرّ، بعدما بدأ التيار يكَيَّف نفسه مع هذا الطرح منذ الآن. فباسيل، الذي يضع رئاسة الجمهورية نصب عينيه، سيكون مضطراً لاحقاً إلى إدارة كتلة التيار النيابية والتفرّغ لأمور المعركة الرئاسية وتثبيت نظرية «المسيحي الأقوى». تلك الزعامة، يُجمع سياسيون مخضرمون على أن النيابة تبنيها لا الوزارة. غياب باسيل عن طاولة مجلس الوزراء لن يحدث فرقاً كبيراً، مع وجود وزير العدل سليم جريصاتي «المحنّك»، الذي ابتعد عن النيابة ليبقى متاحاً لتولي المناصب الوزارية، إلى جانب وزراء جدد يحتاجون إلى وقت كافٍ لاكتساب خبرة العمل الحكومي وخباياه.
وحتماً لن يكون بينهم معظم وزراء «تكتل التغيير» الحاليين.
أمرٌ آخر يستفيد منه باسيل، وهو إبعاد الوزير علي حسن خليل «المشاكس» عن طاولة مجلس الوزراء، بعدما تعذّر الأمر في المرة الماضية، مع محاولة التيار وضع فيتو على خليل شخصياً، ما زاد الرئيس نبيه برّي تمسّكاً بتوزيره. خليل بدوره، يكسب فرصة انخراطه أكثر في العمل السياسي والنيابي، بعيداً عن المهمات التقنية التي تفرضها وزارة المال على أي وزير. ولعلّ حركة أمل، أكثر المتأثرين بهذا التوجّه، مع ترشّح كلّ وزرائها المعتادين للانتخابات. إلّا أن بري، يملك دائماً عنصر المفاجأة، كاختيار الوزيرة عناية عز الدين في الحكومة الحالية. وهو بلا ريب، يستعدّ للمرحلة المقبلة. وبري قال سابقاً إن فصل النيابة عن الوزارة يحتاج إلى تعديل دستوري في المجلس النيابي، والوقت بات يضيق لسَنّه خلال المجلس الحالي، وسيكون صعباً أن يُتاح قبل الحكومة الأولى بعد الانتخابات، إلّا إذا جرى اعتماده عرفاً بين القوى السياسية التي ترغب، وفي ذلك إشارة مزدوجة بأن تعامله مع الأمر سيكون سياسياً وليس تقنياً.
الحريري يقصي السنيورة... ماذا عن المشنوق؟
الرئيس سعد الحريري هو الآخر، «قَرَّشَ» فصل النيابة عن الوزارة، وترك ورقة النائبين جمال الجراح وجان أوغاسبيان في جيبه، كخبيرين في العمل الوزاري. ويتيح فصل النيابة عن الوزارة للحريري، إخراج الوزير نهاد المشنوق من وزارة الداخلية وإبعاده عن رئاسة الحكومة، بوصفه مرشّحاً محتملاً، بعدما سمحت الظروف للحريري بتحييد الرئيس فؤاد السنيورة، وهو المدرك أن لا أحد يمكنه أن يكون الثاني في فريقه حالياً سوى وزير الداخلية، بحكم رصيده وخبرته وعلاقاته في الداخل والخارج.
ويُنقل عن عون أن خريطة طريق الحكومة الأولى الفعلية للعهد، تمرّ بفصل النيابة عن الوزارة، وعدم توزير الراسبين، والمداورة بين الوزارات بما فيها المال والداخلية، وحكومة رشيقة من 24 وزيراً بلا أثقال وزراء الدولة. ويحكى أيضاً، أن الوزير محمد الصفدي عَزَفَ عن الترشّح للانتخابات، فيكون تقاطعاً بين الحريري وعون لفرضه وزيراً للمال، في مسعاهما الحثيث لانتزاع وزارة المال من بري، بتأثيرها ورمزيتها.
جعجع وجنبلاط يقدمان... ويؤخران
أما رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، فيسير على الدرب نفسه، تاركاً وزير الإعلام ملحم الرياشي ضابط ارتباطه مع الحريري وعون، وديعة للحكومة المقبلة. لم يخاطر جعجع برياشي مرشحاً راسباً، مُحرّم عليه دخول «نادي المعالي»، ومثله نائب رئيس الحكومة وزير الصّحة غسان الحاصباني.
أما النائب وليد جنبلاط، ففضل سحب الوزيرين وائل أبو فاعور وأكرم شهيّب باكراً من الحكومة الماضية، لكي يتسنى لهما التحضير للانتخابات النيابية ومواكبة تيمور جنبلاط في انطلاقته السياسية الأولى. وفي حال قرّر جنبلاط التزام العرف الجديد، سيكون مضطراً إلى استعادة النائب غازي العريضي إلى طاولة مجلس الوزراء، لحاجته إلى خبرته، مترفّعاً عن مآخذه التي أبعد العريضي على أساسها من دائرته الضّيقة في المرحلة السابقة. ولعل تباشير ذلك في تولي العريضي مجدداً عدداً من الملفات، وخصوصاً تلك المتصلة بالعلاقة مع عون وبري والتيار الوطني الحر وحزب الله والنائب سليمان فرنجية.
وإذا كان أبو فاعور الأكثر تضرراً على محور جنبلاط، فإن الأرجح أن يكون الوزير السابق مروان خير الدين محظيّاً، في ظلّ إعجاب الحريري به والحديث عن إمكان توزيره في الحكومة المقبلة. ويعوّض توزير خير الدين غيابه عن لائحة الحريري في دائرة بيروت الثانية، بعدما قطع جنبلاط الطريق أمامه عبر ترشيح النائب السابق فيصل الصايغ في بيروت، وإعلان دعمه النائب أنور الخليل في حاصبيا.