الأجواء المحيطة بمؤتمر سيدر (باريس 4) لا تطمئن. قروض إضافية ستُدفع من جيوب اللبنانيين، مقابل تعهدات بإصلاحات بنيوية. هذه الإصلاحات تنحو باتجاه واحد: تفعيل مشاريع الخصخصة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، التي يتبين بحسب اقتصاديين أنها لن تساهم في أي تغيير يذكر في إطار العجز المستمر. هؤلاء يقترحون إصلاحات أكثر استدامة كخفض سعر الفائدة على الديون
بعد عشرين يوماً ينعقد مؤتمر باريس 4 المسمى «سيدر». التحضيرات للمؤتمر تسير بوتيرة مرتفعة. أبرز وجوهها الإصرار على إنجاز الموازنة بسرعة قياسية، بغضّ النظر عن الإصلاحات التي كانت منتظرة. لكن بالرغم من ذلك، لم يتمكن لبنان من التزام موعد 14 آذار، الذي كان يفترض أن يسلّم فيه المستندات النهائية المتعلقة بالمشاريع المراد دعمها وبالأثر الاقتصادي لهذه المشاريع. كذلك كان يفترض به تسليم الدراسة المتعلقة بالواقع الاقتصادي، التي كلّفت شركة ماكينزي إجراءها.
تدرك الحكومة أن الموعد ليس نهائياً، لكن التزامه يعطي المستثمرين والدول الداعمة الوقت للاطلاع على هذه الملفات ودرسها، تمهيداً لبحث إمكانية دعم لبنان. تصل قيمة الدعم المطلوب إلى 16 مليار دولار. لكن يبدو أن هذا الرقم لا يزال في ارتفاع مطّرد نتيجة الاستمرار في حشو المشاريع المقدمة. في تغريدة له أمس، قال النائب وليد جنبلاط إن «خطة باريس ٤ تزداد حجماً يوماً بعد يوم، وقد شارفت على ٢٣ مليار دولار حتى الآن».
ليس مهماً كم يتضخم المبلغ المطلوب لبنانياً، فالتوقعات تشير إلى أن الدعم (القروض) لن يتخطى 4 مليارات دولار في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً. حتى هذا الدعم، قد يبقى حبراً على ورق، أسوة بالكثير من الوعود التي حملتها مؤتمرات أخرى (أبرزها باريس 1 و2 و3)، إذا لم يسارع لبنان إلى تنفيذ خطوات جدية لضبط العجز وزيادة الإيرادات ووقف نمو الدين العام. باختصار، المطلوب دولياً «التزامات جدية من الحكومة بإجراء إصلاحات بنيوية ومالية ونقدية محددة». والحل السحري، دولياً، كما بالنسبة إلى معظم أهل السلطة، «هو الشراكة بين القطاعين العام والخاص أو الخصخصة، في المشاريع الكبيرة، ولا سيما في قطاعي الاتصالات والكهرباء، وفي المرافئ والمطارات». فهل الحكومة قادرة على تنفيذ تعهداتها، خاصة أن الانتخابات على بعد شهر ونيف؟ وهل من يضمن التزام حكومة ما بعد الانتخابات بالتوجهات نفسها؟ وقبل ذلك، لا بل الأساس، هل تصبّ هذه الالتزامات في مصلحة لبنان؟
الخلوي للبيع
بين بعض أعضاء الحكومة اعتقاد راسخ بأنّ عدم إقفال الحلقة المفرغة التي يدور فيها الاقتصاد اللبناني «سيؤدي إلى الانهيار، في ظل النمو المتزايد للدين العام». أما الحل، «فيكون بخصخصة أكثر القطاعات جهوزية لذلك، أي قطاع الاتصالات». بالنسبة إلى وزير معني، «سيؤدي بيع شركتي الخلوي إلى ضخ أموال مباشرة، تراوح بين 4 و6 مليارات دولار، يجب استعمالها لسداد جزء من الدين العام، بما يؤدي سريعاً إلى خفض كلفة خدمة هذا الدين». بالنسبة إلى المصدر، إن خصخصة هذا القطاع ستعني ضخ مبلغ كبير من المال في العام الأول للاستثمار، مع الإبقاء في السنوات التي تلي على نسبة لا بأس بها من العائدات الحالية لقطاع الاتصالات، التي تقدر بـ1.1 مليار دولار في موازنة 2018، وذلك من طريق المشاركة بالعائدات بنسبة تصل إلى 15 بالمئة من إجمالي واردات القطاع، بما يقدر بنحو 200 مليون دولار، تُضاف إليها رسوم الترددات والوصلات والألياف البصرية والضرائب، بما يؤدي إلى مراوحة حصة الدولة ما بين 300 و400 مليون دولار».
يثق المصدر نفسه «بأن البيع المباشر سيؤدي سريعاً إلى نتائج إيجابية على الاقتصاد، خاصة إذا استعملت قيمة البيع لسداد أصول الدين المكلفة، بما يساهم في انخفاض خدمة هذا الدين. كذلك يمكن أن يساهم توافر السيولة في تحريك عجلة الاستملاكات التي يجب أن تنفذها الحكومة، لكي تتمكن من تفعيل مشاريع وافق البنك الدولي على تمويلها، وتبلغ قيمتها 3.5 مليارات دولار، ولا تزال مجمدة بسبب عدم سداد لبنان لحصته».
هل القرار بالسير بتخصيص قطاع الاتصالات قد اتُّخذ؟ لا قرار حكومياً بعد، يقول المصدر، لكنه يؤكد أن الضغوط الدولية التي تتصاعد في سبيل تحفيز الاقتصاد ووقف النزف فيه، تعني عملياً أن الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص ستقي لبنان من مخاطر نقدية ومالية محدقة.
إصلاحات بنيوية أم نقدية؟
يقول أحد المعنيين بالمؤتمرات الدولية لدعم لبنان إن مؤتمر باريس «ليس سوى مؤتمر علاقات عامة مشروط». حتى المبعوث الفرنسي المنتدب لشؤون المتوسط السفير بيار دوكان، كان قد وضع المؤتمر، أثناء زيارته التحضيرية للبنان بداية الشهر الحالي، في إطار المؤتمر الإصلاحي، الذي يهدف إلى وضع الأطر والشروط المطلوبة للإصلاحات قبل الاستثمارات. والضغوط الدولية على لبنان وصلت إلى حد التحذير من أن عدم إجراء إصلاحات بنيوية تزيد المداخيل وتخفض الدين العام قد تضطره إلى إجراء إصلاحات نقدية.
صحيح أن الموازنة تشكّل رسالة في الاتجاه الصحيح، إلا أنها لن تكون كافية لإزالة القلق، خاصة أن ضبط الإنفاق لم يقترن بإجراءات عملية تضمن الاستمرار في ضبط العجز.
في مقابل الفريق الوزاري المتحمّس للخصخصة، ثمة بين الاقتصاديين من يوافق على أن البلد بحاجة إلى صدمة إيجابية لكي يوقف السير باتجاه الهاوية، إلا أنه لا يوافق على الوصفات المقدمة من المؤسسات الدولية. «ليست الخصخصة هي الحل»، يقول أحد الخبراء، وإن كان لا يبدي رفضه بالمطلق للمسألة. حساسيته تجاه الموضوع مرتبطة بطبيعة الخصخصة المقترحة، أي الخصخصة الاحتكارية، التي تحصر إعطاء الرخص بشركتين أو ثلاث فقط. يقول إن هذا المثال لا يخدم الفكرة الأساسية من الخصخصة، أي إيجاد مساحة للتنافس بين الشركات على تأمين الخدمة الأفضل بالسعر الأفضل للمستهلكين، فتسليم القطاع لعدد محدود منها يمكن أن يؤدي إلى اتفاقها على التحكم بالأسعار. لذلك، يعتبر أن النموذج الأصلح هو فتح القطاع بالمطلق أمام القطاع الخاص، بحيث تكون الدولة هي مالكة البنية التحتية، فيما تشتري منها الشركات الخاصة حاجتها من الاتصالات بالجملة وتتنافس في ما بينها لتقديم خدمات ذات قيمة مضافة، بالمفرق، إلى المستهلكين.
يرفض متخصصون ما يُحكى عن وصفة سحرية للخصخصة، تؤدي إلى خفض الدين العام وتحريك الاقتصاد. فهؤلاء يجزمون بأن أي مبلغ يمكن أن يحصّله لبنان من جراء بيع بعض قطاعاته، وأبرزها الاتصالات، سيكون تأثيره محدوداً جداً، فيما سيستمر العجز في الموازنات.
هنا، من المفيد الإشارة إلى أن قيمة الدين الحالية تقدَّر بنحو 85 مليار دولار، فيما تشكل خدمته ما نسبته 6.35 بالمئة من إجمالي هذا الدين (5.4 مليارات دولار)، بحسب مشروع موازنة 2018. وبحسب الموازنة نفسها، يقدَّر الانفاق العام بـ17.2 مليار دولار، فيما الإيرادات تصل إلى 12.4 مليار دولار، فيكون العجز 4.8 مليارات دولار.
لكن ماذا لو سُدِّدَت 4 مليارات دولار من أصل الدين (ثمن بيع الخلوي)؟ عندها تنخفض قيمته إلى 81 مليار دولار، وتنخفض خدمته إلى 4.9 مليارات دولار (تتراجع 500 مليون دولار)، ما يعني بالتالي انخفاض الإنفاق بالمقدار نفسه، ليصبح 16.7 مليار دولار، الذي يمكن أن يوفّر منه أيضاً نحو 400 مليون دولار هي قيمة الاستثمارات في القطاع، فينخفض الإنفاق عندها إلى 16.3 مليار دولار. لكن ذلك سيعني أيضاً انخفاض الإيرادت 1.1 مليار دولار (قيمة ما يدرّه قطاع الاتصالات على الخزينة)، لتستقر على 11.3 مليار دولار. بما يعني أن العجز سيصبح نحو 5 مليارات دولار، بدلاً من 5.4 مليارات دولار في السنة الأولى، قبل أن يعاود الارتفاع مجدداً في الأعوام التي تلي، حيث قد لا يبقى للدولة قطاعات للبيع.
ضرائب على المضاربات
إذن، ما الحل؟ ثمة من يجزم بأن الحلول موجودة، وهي تحتاج فقط إلى مقاربات مختلفة من تلك المتداولة التي يروّج لها بعض أهل السلطة. «فالضغط الضريبي في لبنان لا يزال منخفضاً جدّاً، ولا سيما على الدخل والأرباح، ولا تزال الريوع والمضاربات المالية والعقارية شبه مُعفاة من هذا الضغط. كذلك توجد إعفاءات كثيرة للشركات والأعمال مقرونة بتهرّب ضريبي واسع وشائع... ما يعني أن هناك إمكانية قائمة لزيادة إيرادات الدولة الضريبية، بمبالغ توازي ما يجري الحديث عنه في مجال الخصخصة، مع فارق جوهري واضح، أن الضرائب تتسم بالثبات والاستمرار، في حين أن الخصخصة تنطوي على ايرادات استثنائية لمرّة واحدة يمكن استهلاكها سريعاً، كذلك فإن الضرائب تساهم بزيادة الأصول العامّة، في حين أن الخصخصة تقلّصها».
ليس هذا فحسب، الخبير الاقتصادي نفسه، يقترح أن تلجأ الدولة إلى خفض الفائدة على الدين العام القائم. هذا الإجراء القسري ممكن، برأيه، ما دام هناك توافق على أن سعر الفائدة المترتب عن هذا الدين «سخي»، وبالتالي خفضه واحداً في المئة فقط يمكن أن يخفض الإنفاق العام مليار دولار تقريباً. علماً أن هذا الإجراء لا يؤدي إلى أي اختلالات، ما عدا أن الأرباح المرتفعة للدائنين ستبقى مرتفعة، لكنها ستنخفض قليلاً.