لأول مرة يأخذ خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، اهتماماً أبعد من الواقع السياسي أو العسكري. دخوله على خط الاقتصاد والوضع المالي ومحاربة الفساد، يغير في قواعد اللعبة الداخلية في مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية
كانت إطلالة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الانتخابية أول من أمس، خارجة عن المألوف السياسي المعتاد. صحيح أن الخطاب كان مبرمجاً للكلام عن برنامج الحزب الانتخابي، لكن اللافت، أنه قد يكون الخطاب اليتيم في المرحلة الانتخابية الذي تناول الواقع المحلي الآني والمستقبلي بأبعاد سياسية بحت. فبعيداً عن المهاترات الانتخابية وتنقل المرشحين من لائحة إلى أخرى، وعقد صفقات بالتراضي لإنتاج تحالفات عشوائية، استحوذ خطاب نصرالله على اهتمام سياسيين، لكونه رسم استراتيجية الحزب السياسية - الاقتصادية أكثر منها الانتخابية. هي من المرات النادرة التي يضع حزب الله عينه على الواقع الداخلي بهذه التفاصيل الذي شرحها أمينه العام، ولا سيما في الشق الاقتصادي والمالي.
لسنوات خلت، كانت المعادلة التي حكمت البلد، قائمة على أن المقاومة للحزب، والاقتصاد والمال لتيار المستقبل والرئيس الراحل رفيق الحريري وبعده للرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري، قبل أن يصبح العهد حالياً شريكاً مضارباً. في خطابه الأخير، دخل حزب الله على خط الاقتصاد من الباب العريض، في لحظة اقتصادية ومالية دقيقة، وكلام عن مخاطر الوضع الاقتصادي والمالي، في ظل محاولات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المستمرة لتهدئة النفوس الخائفة على سلامة الليرة.
صحيح أن حزب الله كان أحد الشركاء الأساسيين في الحكم لأعوام طويلة، وصحيح أيضاً أن شريكه الرئيس نبيه بري أحد أعمدة الترويكا والتركيبة التي مزجت العمل السياسي بالاقتصاد والمال، لكن غطاء المقاومة ظل حاضراً أكثر فأكثر فوق الحزب، في الداخل ولاحقاً في سوريا، الأمر الذي جعله مبتعداً عن الملفات الداخلية، المالية والاقتصادية، تاركاً ذلك لحليفه بري، متخلياً عن هذا الجانب في مقاربة تفاصيلها اليومية. حتى إنه لم يتسلم في الحكومات المتعاقبة أكثر من وزارات راوحت بين العمل والصناعة والشؤون الإدارية، ولم يتسلم حقائب تدخل في صلب السياسات المالية والاقتصادية.
مع العقوبات الأميركية على الحزب، وفرض قيود على حركة نوابه وشخصياته ومؤسساته، انخرط حزب الله بصورة مباشرة وغير مباشرة مع القطاع المالي والمصرفي عبر لقاءات واتصالات، ما خفف من وطأة الخطوات الأميركية عليه. لكن ذلك بقي في إطار ثنائي محصور بين الحزب والمصارف، ومن خلفها مصرف لبنان طبعاً.
مهلة السماح المالية ـ الاقتصادية انتهت، والحزب لن يكون طرفاً سياسياً وحسب في الحكومة المقبلة
من هنا استحوذت مقاربة نصرالله للمشهد للوضع الاقتصادي، والمؤتمرات الدولية الداعمة للبنان والقروض المحتملة، على الاهتمام، لأنها من المرات النادرة التي يتطرق فيها إلى ذلك، بما يتعدى التماشي مع الجو العام الذي أصبح ناقماً على تفشي الفساد وروائح الصفقات المتتالية، خصوصاً أنه كان دقيقاً في توصيفه خطورة أوضاع المالية العامة، مختصراً بعبارة واضحة حقيقة ما يعيشه لبنان مالياً، من دون تفاصيل لعدم إثارة المخاوف.
هذه المقاربة المستجدة، وبهذا الوضوح، استوجبت طرح أسئلة عن التوقيت والأهداف. ومن الطبيعي ألّا يكون التوقيت منفصلاً عن سلسلة وقائع، تتعلق بالوضع الإقليمي والدولي المحيط بلبنان، والتطويق الأميركي لحزب الله وإيران مالياً واقتصادياً، وما يمكن أن يكون يعد للبنان من خطط للحصار عليه ــــــــــ ولعل هنا أهمية كلامه عن المؤتمرات الدولية ومقاربته لها ـــــــــــ واستطراداً بالمرحلة التي يقبل عليها الوضع الداخلي بعد الانتخابات والاستعداد لتشكيل حكومة جديدة.
ولأن كلا الأمرين مرتبطان ويتركان تأثيراً مباشراً على الحزب، يستعيد سياسيون مقاربة الحزب لدخوله الانتخابات باستعداد معلن لتركيب قاعدة قوية في المجلس النيابي المقبل، إن بتحقيق سيطرته والرئيس بري على كل المقاعد الـ 27 الشيعية، أو من خلال تمتين التحالف الانتخابي مع قوى سياسية حليفة، لضمان الحضور القوي والفاعل في مجلس النواب بما يحقق القبض على مفاصله. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مرحلة تشكيل الحكومة المقبلة، خصوصاً أن حزب الله وبري ينطلقان من ثابتة أساسية هي أن وزارة المال ستكون حكماً من حصة الطائفة الشيعية. ومع كلام نصرالله يمكن استخلاص العبرة بين المطالبة بوزارة المال التي لم يتوقف أحد عندها سابقاً، والرؤية الاقتصادية والمالية للوضع الداخلي التي عبّر عنها نصرالله، أول من أمس.
وانطلاقاً من هذا الخطاب، ولأن قائله هو الأمين العام للحزب، لم يعد ممكناً القفز فوق كلامه، واستعداده للدخول بقوة كطرف أساسي في مقاربة ملفات اقتصادية حيوية، بقيت حتى الآن خارج إطار التداول بها. ولم يعد الحزب قادراً على الوقوف متفرجاً على خطط حكومية اقتصادية، تغاضى عنها منذ أن دخل إلى المجلس النيابي في مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. وهنا يكمن التحدي أمام حزب الله وأمام القوى السياسية المناوئة والحليفة له على السواء. إذ يبدو أن مهلة السماح «المالية والاقتصادية» قد انتهت، والحزب لن يكون طرفاً سياسياً وحسب في الحكومة المقبلة، لأنه رفع سقف المفاوضات ما بعد انتخاب المجلس إلى حد يفترض بالقوى الأخرى داخلياً وخارجياً، أن تتحسب له.