نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ان يجعل بلاده رقماً صعباً في أهم المعادلات المتصلة بمنطقة الشرق الأوسط، هذه المنطقة التي كانت تعد دائماً ساحة لمخططات البيت الأبيض والسياسات الاميركية. فروسيا اليوم تُعتبر «قوة عالمية» بقيادة الرئيس بوتين الذي تَصَدر مجموعة لا بأس بها من التصنيفات الدولية، بما في ذلك تصنيف مجلة «فوربز» للشخصيات الأكثر نفوذًا في العالم، وهو صاحب القول الشهير : " احياناً يكون من الضروري ان تكون وحيداً، كي تثبت أنك على صواب" . فبوتين شغل رئاسة روسيا من عام ٢٠٠٠ حتى عام ٢٠٠٨، ثم أعيد انتخابه سنة ٢٠١٢ حتى اليوم. وفي هذه الفترة الزمنية نجح في جعل نفسه رجل السلام في العالم، فهو من يحافظ على البقاء الى جانب حلفائه مهما كانت الظروف، وهو سيّد الشرق الأوسط الجديد الذي يخطب الجميع ودّه .

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كان الإحساس بالهزيمة قاسيا اضافة إلى معاناة اقتصادية لا يستهان بها، فاتسعت مشاعر الإحباط عند الشعب الروسي، فلا قيمة لإمبراطورية بلا نفوذ خارج حدودها و اقتصاد ضعيف. لذا عمل بوتين على استعادة العافية للداخل الروسي، ومن ثم لعب على اشتغال دور الوساطة في كل الساحات، لذلك نجده حاضراً وبقوة كل الميادين ومع جميع الأطراف، فهو يعطي الضمانات لأمن ومصالح هذا الطرف أو ذاك، على نحو يرضي الجميع، وهذا الدور لا يمكن ان يقوم به الا صاحب البيت.

منذ توليه الحكم عام ٢٠٠٠، تبنى بوتين موقفًا واضحًا من منظومة العلاقات الدولية التي قامت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إذ رفض بحزم سياسة «الأحادية القطبية» للولايات المتحدة الأميركية، فوجه طيلة السنوات الماضية انتقادات حادة اللهجة ضد تفرّد الولايات المتحدة بالقرار الدولي، وبذل في غضون ذلك كل ما من شأنه المساهمة في إعادة بناء تلك المنظومة على أساس الشراكة بين موسكو وواشنطن. بداية، اقتصرت جهود بوتين في هذا المجال على توجيه انتقادات للسياسات الأميركية، ولعل خطابه أمام مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ عام ٢٠٠٧ كان الأبرز في هذا الشأن؛ حينها شدد بوتين على أن «محاولة إيجاد حلول للمشكلات بصورة أحادية الجانب تسببت بمآس إنسانية جمة». وفي حوار تلفزيوني في صيف عام ٢٠١٣، أعرب عن يقينه بأن «القيادة الأميركية تدرك تمامًا أنها لن تتمكن وحدها من حل القضايا العالمية الراهنة»، داعيًا تلك القيادة والنخب السياسية الأميركية إلى تغيير نمط تفكيرها، مؤكداً انفتاح بلاده على التعاون مع الجميع «على أساس المساواة».

وفي حين كانت روسيا تواصل إدارة علاقاتها مع واشنطن، وسعيها لشغل موقع الشريك في الشأن الدولي، عمدت داخليًا إلى وضع برامج لتحديث السلاح الروسي، وتعزيز القوة العسكرية، بالتزامن مع جملة خطوات سياسية -دبلوماسية، نسجت عبرها شبكة علاقات مع دول هامة في الشرق الأوسط. هذه العناصر سمحت لبوتين في نهاية المطاف أن ينقل تلك السياسة الخارجية إلى موقع متقدم، حيث وقف الرئيس الروسي الى جانب نظيره السوري في اغلب المواقف، وكان الداعم الاول لسوريا في اصعب ظروفها، فهو أكد ان زعم الولايات المتحدة بشأن استخدام اسلحة كيماوية من قبل الرئيس بشار الأسد قد يكون في غير موضعه، لأنه شك باحتملية حيازة الثوار السوريين للأسلحة الكيماوية، واستخدامها غير المشروع. ساهم بوتين باعتلاء المنظومة العسكرية الروسية المركز الاول عالميا من حيث الحداثة و الفعالية.

وفي السياق ذاته، ساهم بوتين في الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في تموز عام ٢٠١٤، حول الملف النووي الإيراني. إلا أن مساعي بوتين لتغير نهج السياسة الأميركية، وتحديدًا أن تتعامل واشنطن مع موسكو كشريك في الشأن الدولي، لم تأت بالنتائج المرجوة حتى بداية 2017، فقد كانت روسيا تحقق تقدمًا في مجال لعب دور محوري حاسم في القضايا الدولية الحساسة، وأخذت عبر دورها في الأزمة السورية بصورة رئيسية تحتل الصدارة في الحراك السياسي الدولي، إن كان في المحادثات مع واشنطن أو مع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن مواقفها في مجلس الأمن الدولي. ويجمع المراقبون على أن الدور الروسي في الأزمة السورية شكّل المنصة الرئيسية والأهم التي انطلق منها «سيد الكرملين» في الإعلان عن موقع روسيا في السياسة الدولية، وهو يدرك في الوقت ذاته أن استعادة موقع «القوة العالمية» لبلاده سيضعه بشكل أو بآخر في مواجهة مع الولايات المتحدة، ويفرض عليه تحدي الهيمنة الأميركية لكن شخصية بذكاء و حنكة الرئيس بوتين قادر على مواجهة الصعوبات مهما كثرة و التفوق على اي خصم في الدهاء السياسي و خاصة انه تمرس في المخابرات الروسية منذ 1975. كان التدخل العسكري الروسي في سوريا البوابة التي ساعدت روسيا في الإعلان عن نفسها كقوة دولية جاهزة للتحرك عسكريًا في أي مكان من العالم عند الضرورة ولمساعدة حلفائها، وقد شكلت العمليات العسكرية الروسية في الاراضي السورية دليلاً واضحاً على مدى فعالية وقوة الأسلحة الروسية.

لم يقتصر الدور الروسي على الشرق الاوسط فقط، فعندما حركت اميركا الملف الاوكراني رد بوتين بتجيش كوريا الشمالية ضد الولايات المتحدة. حنكة بوتين نقلت اللعبة من بوابته الخلفية الى مواجهة تهدد الاراضي الاميركية من قبل الصواريخ الكورية. هكذا نجد ان روسيا استعادت مُعظم عناصِر قوّتها، وأصبحت قوّة عُظمى مَرهوبة الجانِب مُجدّدا، ويتزعٍمها رئيس استطاع أن يضعها على خريطة العالم وفي المَكان الذي تستحق، استناداً الى قُدرات عَسكريّة مُتطوّرة جدًّا. فروسيا بوتين ليست روسيا غورباتشوف، ولا هي روسيا يلتسين، روسيا اليَوْمْ تقول “لا” للغَطرسة الأمريكيّة، وتُؤكِّد أن مَرحلة تَفرّدها بالعالم قد انْتهت إلى غَير رَجْعة.

اعادة انتخاب بوتين شكل دفعة للسلام في العالم أجمع، وعلى أمريكا وحُلفائها إدراك أن العالم تغيّر وبِشَكلٍ جَذْريّ، فهل يشكل ذلك تدشينًا لمَرحلة جديدة عُنوانها الزَّعامة العالمِيّة بقيادة روسيا و اميركا؟ هل بمقدور روسيا التفوق على الهيمنة الاميركية المدعومة بالسيطرة على اسواق المال؟ هل اصبحت روسيا مؤثرة لدرجة ان تتدخل بالنتخابات الرئاسية الاميركية؟

المصدر: خاص

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع