في التاسع من تشرين الثاني الماضي، صرّح وزير التربية مروان حمادة قائلاً: «لا أتوقّع أن يعود الرئيس سعد الحريري أو أن يشارك في الحياة السياسية من جديد». خالف رئيس الحكومة توقعات (وربما تمنيات) حمادة. حينذاك، كان رئيس تيار المستقبل محتجزاً في العاصمة السعودية الرياض، ومجبراً على تقديم استقالته. وكلام حمادة، السياسي المخضرم، لم يكن مخالفاً للمنطق الذي تُدار به أمور فئة السياسيين التي ينتمي إليها. فالمعتاد، و«الطبيعي»، أن يقول طويل العمر كلاماً فيُطاع. إلا أن الحريري عاد.

قبل أربعة أشهر ونصف شهر، كان الحريري مسجوناً في السعودية. ومنذ أقل من أسبوعين، استدعت السعودية سفيرها في لبنان وليد اليعقوب، وأبدلت به القائم بالاعمال وليد البخاري، كبادرة حُسن نية تجاه الحريري نفسه! العلاقة بين رئيس الحكومة اللبنانية والحكم السعودي بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان تبدو معقّدة للغاية. مِن سجينه الذي يريد أن يطيحه ويورث حكمه أخاه، إلى رجل دولة يُنفّذ ما يريده قبل أن يطلب، ولو أن ما يرغب فيه يكاد يكون غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين الدول. فاليعقوب لم يرتكب خرقاً دبلوماسياً (حتى بالمعايير اللبنانية غير الموجودة)، ولا هو أخطأ بحق الحريري. لكن السفير السعودي مستفِزّ لـ«الشيخ سعد»، كونه «سكرتير تامر السبهان».

يؤكد مقرّبون من الحريري أنه لن يحصل على مال انتخابي من السعودية(هيثم الموسوي)


تبدّلت سياسة السعودية تجاه الحريري، وتغيّرت طريقة تعاملها مع الملف اللبناني. أرادت، في تشرين الثاني الماضي، تنفيذ انقلاب سرعان ما ارتدّ عليها سلباً. كان أداؤها في غاية العشوائية، إلى حدّ أنها اختارت حجر الزاوية في نفوذها اللبناني لتطيحه.
الأميركيون تنبّهوا لخطورة ما أقدمت عليه الرياض، وقادوا استدارتها، فعادت اليوم لتحتضن رئيس الحكومة. الدور الأبرز في هذا المجال لعبه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، وجاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب. الأخيران نفّذا ما اقترحته الإدارة الاميركية: الطريقة الأمثل لمواجهة حزب الله في لبنان، حالياً، تمر بالسياسة التي يعتمدها سعد الحريري. فالأخير لم يقفز أي قفزة نوعية، في السنوات الماضية، من دون غطاء أميركي. 
بعد خروجه من السلطة، ثم مغادرته لبنان عام 2011، قرر الحريري المواجهة. «قاتَلَ» في سوريا، وخاض معركة سياسية في وجه حزب الله وحلفائه. دائماً، تحت السقف الأميركي


القرار الأصعب الذي اتخذه، يوم قرر دعم وصول العماد ميشال عون إلى بعبدا، لم يكن حصراً نتيجة لـ«خيار اليائس». بل إن الحريري كان يعمل من ضمن «رؤية» تقول إن هزيمة حزب الله في المواجهة المباشرة غير ممكنة. ومن الأجدى السعي إلى الإضرار به بهدوء. انتخاب عون، وفق الرؤية الحريرية، لم يكن أمراً محتوماً بسبب إصرار حزب الله عليه مرشحاً وحيداً وحسب، بل كان أيضاً فرصة يمكن استغلالها لإبعاد الحزب عن حليفه الأوثق. فالحريري مقتنع بأن موقع الرئاسة لوحده يدفع عون إلى الابتعاد، ولو قليلاً عن حزب الله. كذلك، بحسب مقرّبين من الحريري، يمكن الرهان على الوزير جبران باسيل، أداءً وطموحاً، لفكّ عرى التحالف بينه وبين حزب الله، أو على الأقل، لكي تتراجع علاقتهما عن المستوى المتقدم الذي وصلت إليه يوم انتخاب عون. الرؤية الحريرية هنا مطابقة لما يريده الأميركيون، أقلّه حالياً.
اليوم، يقف الحريري ليحصد ما زرعه. خصومه من داخل فريقه السياسي وتياره، يعايرونه بأن سياسته كلّفته تقديم تنازلات باهظة: سياسياً، وإدارياً، وفي قانون الانتخاب...
على مقربة من الانتخابات النيابية، يُجري حريريون جردة حساب للأشهر الماضية. هم مقتنعون بأن قوتهم الحالية غير مسبوقة منذ عام 2005. قد يكون في كلامهم بعض مبالغة. إلا أنهم يجزمون بأن رئيس الحكومة لم يقدّم أيّ تنازلات ذات قيمة، في مقابل تحصيل الكثير من المكاسب.
أولاً، نسج الحريري لنفسه شبكة أمان خارج البلاد، عمادها العلاقة مع الاميركيين والفرنسيين، ما اضطر السعوديين إلى التعقّل. وفي زيارته الأخيرة للرياض، حيث استقبله محمد بن سلمان أكثر من مرة، بصورة هي أقرب إلى الاعتذار عمّا فعله به في تشرين الثاني الماضي، تقرر منح إحدى شركاته حق تنفيذ مشروع في منطقة تبوك السعودية بقيمة تصل إلى نحو 650 مليون دولار أميركي. ورغم الطابع السياسي لهذا العطاء، يرفض حريريون هذا الوصف، مؤكدين أن الحريري لن يحصل على مال انتخابي من السعودية. فبرأيهم، من عوامل قوته الحالية الاحتفاظ بهامش المناورة الذي يتيحه له عدم طلب مال من الرياض.
ثانياً، في الداخل، شبكة أمان عمادها العلاقة بالرئيس ميشال عون. منح الحريري عون (وباسيل) كل ما يريده. لكنه، بحسب مقرّبين منه، لم يتنازل عن «حقوق السنّة»، ولا عن «حصة تيار المستقبل». ما تخلى عنه، بسبب وجود رئيس قوي في بعبدا، ولمقتضيات التسوية، كان جزءاً ممّا يضع تياره يده عليه «من دون وجه حق». والمكاسب التي يحصّلها من علاقته بعون وتياره أكبر من أن تُقارَن بمقعد نيابي هنا، وموقع إداري هناك، ومرسوم لا يُوقّع. المكسب، بحسب الحريريين، هو ضمان البقاء في رئاسة الحكومة، وإقامة تحالف استراتيجي مع التيار الوطني الحر، بما يجعل منهما الكتلة الوازنة في السلطة.
ثالثاً، ما يمنحه لعون وباسيل يقوّيهما «في وجه الشيعة». طوال الأشهر الماضية، أكثر حريريون من الابتسامات الصفراء، وهم يتفرّجون على العراك الذي لا ينتهي بين التيار الوطني الحر وحركة أمل. وهذا العراك يصيب العلاقة بين حزب الله والعونيين بالكثير من الخدوش والجروح التي تحتاج إلى وقت طويل لتشفى. وأيّ خلاف بين أمل والعونيين يتحوّل تلقائياً إلى خلاف مسيحي ــ شيعي، يكتفي المستقبل بمراقبته من دون التعبير عن الفرح المكتوم به. وهنا، يعوّل الحريري على تراكم الخلافات التكتيكية بين التيار الوطني الحر وحزب الله، بما يحوّلها لاحقاً إلى أسباب لفراق استراتيجي بينهما.
رابعاً، من تخلى عنهم الحريري إدارياً وقضائياً كانوا يشغلون مواقع يحق لرئيس الجمهورية تعيين شاغليها. وفي المقابل، حصل الحريري على حق مطلق بتقرير المواقع السنيّة، بلا أيّ شريك. أما الموظفون السنّة الذين أبعِدوا عن مناصبهم، فاختار هو بنفسه تبديلهم، ليضع في مكانهم أشخاصاً أكثر مطواعية وولاءً له من سابقيهم، أو أقل إثارة للمشكلات الإدارية والسياسية.
خامساً، من المنظار نفسه، يرى الحريريون قانون الانتخاب. هو أفضل الممكن نتيجة موازين القوى الحالية. لكن هذا القانون «ليس مجحفاً بحقنا أبداً. الإجحاف هو في قول العكس. فما سنخسره هو إما ليس حقاً لنا، كثلاثة مقاعد شيعية، ومقعدين علويين، وبعض المقاعد المسيحية، وإما مقاعد نخسرها لنكسب في مقابلها مقاعد كان غيرنا يضع يده عليه. وفي المحصلة، ستكون لنا بعد الانتخابات كتلة من نحو 24 نائباً، لتبقى الكتلة الحزبية الأكبر في المجلس النيابي». 
سادساً، على المستوى الشعبي، يعترف المستقبليون بتراجع التأييد الذي أصابهم لدى الجمهور السنّي. لكن، وبدلاً من الخطر الذي كان يُحدق بهم نتيجة الدعم السعودي والإماراتي لخصومهم «داخل الطائفة»، يبدو الحريري اليوم كما لو أنه بلا بديل. تراجعت الرياض عن دعمها للوزير السابق أشرف ريفي إلى حدّ عدم شموله بزيارة خاطفة للموفد الملكي نزار العَلَوْلا قبل أسابيع، فيما تراجع انقلابيون آخرون، كخالد ضاهر، من موقف المستعد لمبايعة بهاء الحريري «إذا طلبت مني المملكة ذلك»، إلى «المعتذِر» من سعد الحريري، والمنسحِب من مواجهته الانتخابية. استدارت السعودية، وتركت من شاركوها انقلابها الفاشل على رئيس تيار المستقبل بلا أي سند في الاستحقاق المقبل. ما جرى في تركيب التحالفات الانتخابية دليل على أنها لم تضغط على «ابنها سعد» لمراعاة أحد، وأبرزهم سمير جعجع الذي وضع كامل وزنه السياسي في كفة انقلابها على الحريري.
ما سبق ذكره من عناصر القوة لا يزال يحتاج إلى أمر وحيد للتصديق عليه: أن تكون نتائج الانتخابات النيابية على قدر تطلعات المستقبليين، رغم اقتناعهم، كما باقي القوى السياسية، بأن ما يضمن رئاسة الحكومة لأي شخصية سياسية ليس عدد المقاعد النيابية، بل التفاهمات السياسية التي أجاد الحريري نسجها.

المصدر: حسن عليق – الأخبار